الطبيعة في ديوان الخليفة (ولكني أسير هواك)

> «الأيام» د. عبدالكريم أسعد قحطان:

> في البدء أحيي الهامة الباسقة والشمس السمراء، أستاذي الدكتور مبارك حسن الخليفة، الذي مزج مياه النيل بصيف عدن فانسكب فرحاً شهياً في موائد أحلامنا البهية.

وأهنئه لتجدده الشعري المترع بالجمال وبإحساس الإنسان الذي ذوب الوجود في ذاته وسما بهما إلى مشارف النقاء. وهو سمو كان للطبيعة حضور لافت فيه، لا من حيث هي موضوعات محددة في الزمان والمكان، بل من حيث هي منابع مثالية للمعنى الشعري، ومن ثم تعيد تشكيلها في عالم غرائبي يتجاوب به الطبيعي مع الإنساني والحسي مع المجرد، وكثيراً ما تتناسخ مكوناته فيحل بعضها محل بعض أو يحتوي بعضها بعضاً. مع أنه يستدعيها حيناً لتحتويه وتمنحه مدلول حركتها، بمثل قوله:

وفي دمي هدير النيل غب صيف ماطر

ودمدمات الرعد فيه

وارتعاش البرق والتماعه

بدفقة الضياء الغامر

فالذات الشاعرة هنا تتضخم لتحتوي الكون في فضائها من دون أن تشخصه، أي تدع الوقائع الطبيعية تمارس حركتها المعتادة، والذات الشاعرة هنا تتشكل ضمن مدلول نسق الطبيعة، وعلى العكس من ذلك نجده حيناً آخر يستدعيها ليمنحها مدلول حركته أو ليشكلها ضمن مدلول نسقه البشري، بمثل قوله:

هذي لجبال الراتعات.. تطل فرحى من عل

وتداعب الشمس الجميلة.. في الفضاء الأجمل

فالفرح والمداعبة يخصان الشاعر لا الطبيعة. مع أنه كثيرا ما يناوب - في النص الواحد - بين الحالين.

وهو لا يفعل ذلك إلا لغرض تحقيق التواصل مع المتلقي من خلال لغة جمالية قادرة على مزج الإثارة بالتعبير بالإقناع الوجداني، فهي تثير التوتر بفعل تركيبها الغريب الذي يتجاوز مألوف اللغة والإدراك العقلي بقدر ما تعبر عن مشاعر بشرية معينة أو تكشف عن رؤيا الذات الشاعرة، وفي الوقت نفسه تكون قادرة على إقناع المتلقي بحقيقتها الخاصة أو بعالمها الفني. فلكي تعبر الذات الشاعرة عن فرحها في الوجود تبدع تشكيلاً يمزج حركة الطبيعة بفاعلية العشق البشري من دون أن تشترك هي في الحدث، بمثل قوله عن مساء البريقا:

الشط ملتهب المشاعر.. من ترى سيقاربه؟

الموج يلثم رمله.. من حبه.. ويداعبه

ويضمه.. مترفقاً ومغازلاً.. ويلاعبه

الكل فارق همه بل فارقته متاعبه

أو قوله معبراً عن إعجابه بسواحل بحيرة تنجانيقا:

هناك قمة

ترتاح في أحضانها شجيرة

تحنو على يمامتين

تحضنان أزغبين.. فرحة يزقزقان

ونجمتان

على مشارف المساء تلمعان

توشوشان بالضياء

نجمتين

نجمتين

وقد تكون الذات الشاعرة طرفاً في الحدث المعاين، كما في قوله:

قلبي توزع بين أبين والخضيرة

هذي تمد يدا مخضبة

وتلك تمد لي

من زهرة الكاذي ضفيرة

فلغرض ترجمة مشاعره المترعة وداً نحو أحبته في لحج وأبين، يؤهل المكان للتجاوب العاطفي من خلال تشخيصه ومنحه دور العاشق المفتون من دون أن يسلبه كلياً طبيعته الخاصة، وهو ما يفتح البنية المشكلة لاحتمالات دلالية عديدة ومن ثم للتواصل الجمالي مع المتلقي.

وإذا ما كان للصخور أن توحي بالجمود والصلابة فإنها في خيال الخليفة تصير مكونات الحدث الشعري، ومن ثم تتجاوب مع لحظة الفيض العاطفي، بمثل قوله عن جبال الشعيب: وأينعت الصخور زهور وجد

وكما خرجت الصخور عن مألوفها لتعبر عن إحساس الذات بالجمال، فالسحب، وهي التي تحمل الغيث وتبشر بالخير، يمكنها أن تتخلى عن هذه الوظيفة في نسق يسعى إلى التعبير عن الإحساس بالفاجعة، بمثل قوله:

سحب جرداء

تزحف في أفق أجرد

وجفاف رياح صفراء

يتكسر في نفسي: أصداء..أصداء.

وفي تشكيلات أخرى تستدعى الطبيعة للكشف عن رؤيا الذات ووعيها للوجود، كما في قوله يصف العملية الإبداعية: (تصب دماءها وردا وفلا) وفيها (يستحيل لهيب نار الشمس ظلا) وهو هنا يؤسطر الوقائع* ، حيث يمتزج الإنسان بالطبيعة ويتبادلان الأدوار أو يتناسخ كل منهما في الآخر مثلما تصير مكونات الطبيعة نفسها قادرة على التناسخ وتبادل الأدوار المتضادة مع طبائعها.

مثل هذه التراكيب تكون أقرب إلى الصورة الفراغية التي تصعد التوتر في الخطاب الشعري إلى أقصاه، لما بها من تناقض ظاهري أو عقلي بين مكوناتها، في الوقت الذي تكون به أكثر قدرة على إثارة الإحساس بالجمال لما بين مكوناتها المتناقضة من انسجام فني. فالعملية الإبداعية هي- في وعي الذات- معاناة خلاقة، معاناة مع النفس ومعاناة مع الواقع ومعاناة مع اللغة، لكنها المعاناة التي تنتج الأثر الجميل، ومن ثم ليس من لغة تكشف عن هذا المدلول سوى هذه الصور التي تمزج المتناقضات بعضها ببعض.

وهي صور كثيرة الحضور في ديوان الخليفة، بمثل قوله:

موتك منار وضياء

موتك حياء.

أو قوله:

أبحث عن «مارتن لوثر كنق»

فأشم عبير التاريخ المفعم بالدم

وأحسن أنين الطبل الإفريقي المبهم

في أرض السود البيضاء

في أرض البيض السوداء.

وبطبيعة الحال ليس لهذه القراءة المستعجلة أن تسبر أغوار الخطاب الشعري المنجز بديوان الخليفة ولا أن تغني عن تذوق النص بلغته.


* يؤسطر الواقع: أن يعطيه الطبيعة الأسطورية.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى