الأصالة والريادة والفن والمشوار .. بين محمد جمعة خان والبار والمحضار (2-2)

> «الأيام» رياض عوض باشراحيل:

> توقفنا في الحلقة الأولى أمام صورتين من صور الأصالة ونكران الذات والاعتراف بالجميل والتقدير والوفاء عند المحضار تجاه الفنان محمد جمعة خان والشاعر حسين بن محمد البار.

وفي هذه الحلقة نرى كيف أشرقت تلك الصفات عند الشاعر البار تجاه محمد جمعة خان والمحضار.. أما محمد جمعة خان فقد تجلى إعجابه بالشاعرين ووفائه لهما من خلال ما قدمه لهما من روائع غنائية ستظل- بصوته وموسيقاه وبصماته الرائدة- خالدة عبر الزمن.

حكاية أغنية (يازهرة في الربيع)

بين البار والمحضار

أما الشاعر الكبير حسين بن محمد البار فهو الآخر قد عبر عن إعجابه بشعر المحضار وأغنياته وتقديره له، وقد تجلت تلك المحبة والإعجاب والتقدير في صور متعددة نتوقف هنا أمام صورتين منها:

الأولى أن الشاعر البار استطاع أن يلفت انتباه الفنان الكبير أبوبكر سالم بلفقيه، بل حثه على التوجه إلى الشاعر المحضار والتعرف عليه من قرب للحصول على أعماله الغنائية، والنهل من معينه العذب، وذلك قبل أن يعرف الفنان بلفقيه المحضار وقبل أن يسمع أغنياته.

وأكد له أن التعامل مع المحضار وأعماله الغنائية العصرية والراقية سيرفع من دون شك سهم نجوميته ومكانته الفنية.

وهو بهذا الموقف يكون قد قدم خدمة للفنان بلفقيه وللشاعر المحضار وللأغنية الحضرمية عموما, وكان بإمكان الشاعر البار بحكم معرفته بالمطرب بلفقيه قبل أن يعرفه المحضار أن يستأثر بموهبة بلفقيه الغنائية ويوظف صوته الذهبي الرائع لخدمة أغنياته وتراثه الخاص، خاصة وأن له رصيداً غنائياً كبيراً، وكذلك يملك منبراً صحفياًً قوياً ويرأس تحريره، إنه صحيفة «الرائد».

وهو منبر يجعل رجال الثقافة والفن يتقربون إليه ويستأثرون بصداقته، ولكن لم يفعل ذلك ولم يفكر فيه لسبب بسيط هو أنه لم يكن مهتماً بنفسه ولا بتراثه الخاص تاركاً لإبداعه أن يهتم به غيره، وأن يحتل مكانه اللائق به في ذاكرة أمته دون تدخل منه، ولم توجهه رغباته الذاتية في الشهرة أو حب الظهور ولكن الشهرة والريادة الأدبية والشعرية أتت ساعية إليه فاستحقها بجدارة، وظل البار كما هو الابن البار لثقافة الوطن وفنه، مهتماً بغيره ومهموماً بتراث أمته، ساعياً نحو تطوره ورفعته, وكان كبيراً بحق تجلت فيه صفات الكبار وبرزت بوضوح قيمة «إنكار الذات» وإيثار غيره على نفسه خدمة لتراث أمته من جانب، وخدمة لتراث غيره ممن يرى أنه يستحق خدمته وتوجيه الأنظار إلى فنه الراقي.

أما الصورة الثانية من صور إعجاب وتقدير البار للمحضار فقد برزت من خلال اختياره بعض أغنيات المحضار والبناء الشعري على قوافي وألحان تلك الأغنيات وهي: يازهرة في الربيع، سقى الهاشمي من رحيقه، غبش قمري حمامة، قمري البان.. فبقيت الألحان ومطالع القصائد كما هي للمحضار.

ومثل هذه الظاهرة في تراثنا الشعري ظاهرة صحية فيها إثراء وإضافة وتكامل عندما يصوغ البار أشعاراً على أغنيات للمحضار، أو يصوغ المحضار أشعاراً على أغنيات للبار أو للحداد بن حسن الكاف أو لغيرهما من الرواد، هذا جانب صحي إيجابي، ولكن المصيبة الكبرى تظل في تسلق الصغار شعرياً والباحثين عن الشهرة (من الشعراء أو المطربين) أو المصابين بوهم الندية أمام الرموز الغنائية، فيحاولون التسلق على أعمالهم واستثمار نجاح تلك الأعمال من خلال ألحانها ومطالعها والأجواء التي خلقتها وبثتها في نفوس الناس، فينظمون عليها قصائد هزيلة ضعيفة، هذا هو الوجه السلبي في هذه القضية الذي يجب محاربته بضراوة، لأنه في بعض حالاته يضبب الرؤية ويثير الغبار حول الأغنيات الأصيلة ويستثمر ألحانها ونجاحاتها وشهرتها لصالح الأعمال الركيكة والباهتة.

وقد غنى الفنان الكبير محمد جمعة خان أغنية (يازهرة في الربيع) من كلمات الشاعر البار بمطلع ولحن الشاعر المحضار، كما غنى شيخ الفنانين سعيد عبدالمعين أغنية (يازهرة في الربيع) الأساس من كلمات وألحان المحضار.

ومما جاء في أغنية المحضار التي غناها عبدالمعين قوله:

رد قلبي في مكانه كان عينك بالخيانة

طارحة عندك أمانة ما بغيته يضيع

ليه تنكر من يحبك والعواذل عينهم بك

يشهد الله عامحبك فيك ما بايطيع

إذا ذكرتك طار نومي

ليلتي تمضي ويومي

لو رأوني بعض قومي يحسبوني صريع

شاقني لطفك وفنك والكلام الزين منك

ما عشقتك لاجل حسنك والجمال البديع

أما أغنية البار التي غناها محمد جمعة خان، فقد قال بعد مطلع المحضار:

بانسي ذيك الليالي بامسحها من خيالي

بارخصه لي كان غالي يوم شفتك تبيع

بعتنا أو بعت عمرك هنتنا أو هنت قدرك

يوم نالوا الناس فخرك لأجل ذكرك يشيع

كنت في برج الصيانة يوم راعيت الأمانة

كنت ما ترضى الهيانة كان حصنك منيع

آه ياقهري وغبني خاب فيك اليوم ظني

وأنت لي قد كنت فني كنت فني البديع

أما الأغنيات الثلاث لشاعرنا البار التي صاغ بناءها الفني على أغنيات للمحضار مع أغنية «يازهرة في الربيع» فقد صدح بها جميعا الفنان كرامة مرسال الذي غنى أيضاً الأغنيات نفسها في حفلات أخرى بالنصوص الأساس للشاعر المحضار.

وهذه الأريحية والتعاون الفني المشترك بين القمتين البار والمحضار ينمان عن محبة صادقة وإخلاص حقيقي وتقدير نادر وسمو في الرؤية والرؤيا وشموخ قل نظيره في الماضي والحاضر.

أما وفاء شاعرنا حسين بن محمد البار للفنان محمد جمعة خان وأصالة العلاقة التي تجمعهما، فيكفي أن شاعرنا البار عرف قدرات محمد جمعة خان وإمكاناته الصوتية والفنية الكبيرة، فكان كالمستشار الثقافي والأدبي الخاص به.

ساهم في توسيع أبعاد فنه والانتقال بها إلى المستوى العربي عبر العديد من نصوص الشعر العربي عبر العصور والتي غناها فناننا الكبير وأعطاها حقها من الإبداع قياساً بإمكانات عصره الموسيقية، ويكفي- أيضاً- أنهما معا قد شكلا ثنائياً غنائياً ناجحاً في:

قال بن هاشم، غابت وخلي مساهنا، حنانيك يامن، يا من على البعد، أنا وخلي تراضينا، الفقر ولى وراح، يانوب وين الجنى.. وغيرها كثير.

هكذا نشأ أساتذتنا ورموزنا، وهكذا عاشوا، وهكذا رحلوا من هذه الدنيا عاطري الذكر، بعد أن ترك لنا كل منهم صفحات مضيئة وسطوراً مشرقة وتاريخاً ناصعاً وقصة حياة ونبوغ وسمو وحكايات ومشاهد يسطع منها التفوق والريادة والخلود، نستخلص من رحيقها الزاد والعبر والدروس في الحياة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى