واقع البحث العلمي الزراعي ومتطلبات التطوير وإعادة الهيكلة..(2-2)

> «الأيام» د. يحيى عبداللـــه الدويلة :

> وهذا يتطلب دعم الحكومة للبحوث التطبيقية والتكنولوجية دون إهمال البحث الأساسي ذي العلاقة من خلال رفع نسبة الإنفاق على البحث العلمي، على الأقل من 0.2 % من إجمالي الاقتصاد الوطني إلى 1.4 % حسب اتفاق مؤتمر قمة الكويت الاقتصادية والاعتناء بالتدريب والاتصالات الخارجية.

وتوفير الإدارات العلمية الجادة والخبيرة والمؤمنة بعملية البحث والتطوير والقادرة على تأمين مبررات المتطلبات المادية للبحث العلمي، وأن تتضمن هذه الهيكلية اقتراح نظام إداري ومالي لمؤسسات البحث العلمي غير نظام المؤسسات ذات الطابع الإداري، لتأمين مرونة صرف المكافآت والحوافز الإنتاجية، وأساليب شراء المستلزمات، وتسويق المنتجات والخدمات، وتحقيق الشراكات والاتصال العلمي والتعاون الدولي، واستقدام واستضافة الخبراء والتعاقد معهم، والتعيين المؤقت والدائم للعلميين.

وهنا نصل إلى مسألة هامة جدا وهي هل الهيكلية الداخلية للهيئة تعمل بالشكل الصحيح، وهل هي الأخرى تحتاج إلى إعادة هيكلة، وهل هي المسئولة عن الانحطاط المريع الذي تمر به الهيئة؛ بالقطع نكاد نجزم أن الهيكلية الحالية رسخت آليات عمل متقدمة ولكن جرى في العقد الأخير تعليق وتجميد لكثير من اللوائح والأطر شلت العمل البحثي في فروع الهيئة، بحيث أصبح من غير الواضح مثلا معرفة ما إذا كانت المجالس الفنية أو الفرق البحثية أو وحدات التنسيق مع الإرشاد كآليات عمل لإقرار وتنفيذ ومتابعة البرامج البحثية والتقارير البحثية والتوصيات البحثية قنوات قائمة أم تم إلغاؤها، كل هذا بسبب ضعف الإشراف المباشر لقيادات الهيئة على فروعها التي انحرفت عن الدور الرئيسي، حيث شهدنا تخبطا ملحوظا لقيادة الهيئة وغيابا للضوابط والاحتكام إلى التشريعات واللوائح التي هي الأخرى تم تعليقها، وبدأ العمل يسير وفقا لأمزجة ولاعتبارات أخرى نترفع عن ذكرها, إن الغاية من أي هيكلية هو النهوض بالبحث العلمي من خلال توفير المهارات الفنية من خلال خطط التأهيل وتأسيس بنى تحتية ووجود إطار تشريعي مناسب ونظام مؤسساتي فاعل وإدارة علمية واعية وخبيرة وقرار سياسي داعم ومجتمع يؤمن بالعلم وسيلة للتنمية والتطور، لانرى أيا من هذه الاحتياجات جرى السعي لتحقيقها أو حتى التفكير في أهميتها بل جرت عملية تعطيل للتأهيل كان نتيجته كادرا بحثيا متواضع القدرات والمهارات وبالتالي ابتعاد مستمر عن أهداف البحث العلمي، وفقدت بالتالي مبررات بقائها.

هناك إهمال وتسيب واضح في قدرة الهيئة على إحداث تغيير جذري في آليات الاستفادة من الإنجاز البحثي للباحثين، فالتقارير التراكمية أو التجميعية ترمى في سلة المهملات ولاتجد من يقرأها أو يلتفت لها، وهي الخلاصة النهائية لأي نشاط بحثي، ليس هذا إفراطا في التشاؤم أو نظرة عبثية يائسة للمستقبل، فهناك عقول مبدعة تمتلك القدرات والمهارات، ولكنها مستبعدة ولايلتفت لما تقدمه، بالرغم من النشر الغزير، ناهيك عن مئات الندوات والمؤتمرات التي تقام في كل أرجاء الوطن ولكن لاتجد الاستفادة من مخرجاتها، وهذا نابع عن غياب الآليات والهيكلية الفعالة التي تشجع المساهمة في هذه المؤتمرات والندوات العلمية وتدعم باحثي الهيئة في المشاركة وتحليل توصيات هذه المؤتمرات والندوات العلمية، وبالتالي استثمارها في مجالات التنمية الزراعية وتقديم الدعم الحكومي والقرار السياسي لتوصيلها للجهات المستفيدة.

لقد تم وضع إستراتيجية وخطة بحوث متوسطة المدى 2005 - 2010 ووضعت عناوين كبيرة بهدف تطوير الإنتاج لحل المشاكل التي تعترضه من حين لآخر، لكن هذه الخطة كسائر الخطط التي تضعها الهيئة تجاهلت الاستثمار الأفضل للطاقات البشرية وبناء القدرات، وتوظيف الإمكانيات المادية المتاحة في البحوث الزراعية وتوفر الإمكانيات المادية وتحديث البنى التحتية، فبقت الحاجة قائمة إلى مزيد من توظيف عوامل النجاح وتطوير معارف ومهارات الأطر البحثية، وتطوير التشريعات النافذة حالياً لتوفير مزيد من المرونة الإدارية والمالية اللازمة للبحث العلمي والاهتمام بالباحثين ماديا ومعنويا، وتشجيعهم على مزيد من الإنجاز.

إن تجاوز هذه الحالة يتطلب تقييم كفاءة أداء المحطات والمراكز البحثية على الأقل للعقد الأخير، وتقييم جوانب الضعف والقوة ومدى فاعليتها ومساءلة القائمين عليها أو المسببين لشل عملها، واعتماد خطط لتطوير هذه المؤسسات تتضمن تقييم مستمر لأداء إداراتها ومدى تنفيذ هذه الخطط. والاستمرار في دعم المؤسسات البحثية المنتجة والاستفادة من تجاربها في تفعيل المراكز المتعثرة في مسيرة البحث العلمي، وتقييم أداء الباحثين على أساس الإنتاج العلمي واستبعاد أولئك غير القادرين أو المتعثرين في إضافة الجديد والذين أصبحوا حجرا عثرة في تطور البحوث وتحديث قاعدة البيانات لتوثيق نتائج البحوث المنجزة محليا، من خلال جمع الأوراق المنشورة أو على الأقل التقارير التراكمية وليست السنوية كما يحاول البعض جعلها أساس أي ترقيات، وتفعيل دور المكتبات وربطها ببعضها لتكون حاضنة لمنشورات البحث العلمي المحلي وفهرستها، والاهتمام بعمليات التثقيف ووسائل الإعلام وإنشاء مركز وطني للترجمة لتوسيع نشر ثقافة المعرفة في المجتمع.

على أن الأمر يتطلب أيضا إصلاح آليات تسويق نتائج الأبحاث وأهما النشر في المجلات العلمية المحلية والعربية والدولية، ويوم تأسيس البحوث، ونشر المعلومات في وسائل الإعلام المحلية المختلفة، والتقارير العلمية والنشرات الإرشادية والفنية، وعقد الندوات والمؤتمرات المحلية والعربية والدولية، والأيام الحقلية الإرشادية للفلاحين، جميعها تحتاج إلى تفعيل وتحديث لتقديم المعلومات الفنية اللازمة، ونتائج الأبحاث وتقاناتها وموادها المطوّرة إلى المخططين وصانعي القرار والجهات المستهدفة والمسئولة عن استثمارها.

وتفتقر الهيكلية الحالية أيضا إلى آليات تعاون لتحقيق ارتباط عضوي بين الهيئة والجامعات اليمنية، فقطعا هناك اهتمامات مشتركة، أهمها أن كلا الجانبين يسعى لحل المشاكل الزراعية وتطوير التقانات الزراعية وتنفيذ بحوث خاصة ذات طابع أكاديمي يمكن أن يقوم بإنجازها طلاب الدراسات العليا وبإشراف أساتذة الجامعة وباحثين من الهيئة، وستسمح هذا الآلية بإيجاد حلول علمية لهذه المشاكل الزراعية أو المساهمة في تطوير تقانات زراعية معينة، وتعزيز الإمكانيات العلمية البشرية ورفع مستواها بتأهيل الفنيين المتميزين بدرجة الماجستير أو الدكتوراه، وتكامل الإمكانيات العلمية، والبنى التحتية، وتعزيز التعاون المشترك بين الجامعات وهيئة البحوث الزراعية، وتوفر الهيئة لأساتذة الجامعات المكان المناسب لتنفيذ بحوثهم العلمية ذات الصفة التطبيقية بشكل خاص في مراكز ومحطات البحوث الزراعية التي توفر لهم أيضاً المناخ والإمكانيات المناسبة.

هناك الحاجة المستمرة أيضا لتأهيل الباحثين، وهو حجر الأساس في البحث العلمي، وهو حق، لكن دوما ما كانت تقف أمامه عقبات منذ خمسة عقود، الأمر الذي يحتاج إلى نقلة نوعية في سياسة الإيفاد تتلخص في تطوير ونقل نظام الإيفاد الحالي إلى نظام الإشراف المشترك (السندوتش)، وهذا يمكن أن يقلل من نفقات العملة الصعبة، وتعزيز البحث العلمي وتفعيل المختبرات وبناء الخبرات الأكاديمية، ونقل المعارف والطرائق من خلال الإقامة محددة الأمد في المختبرات الأجنبية، ويمكن تحقيق هذا الاقتراح من خلال توقيع مذكرة تفاهم ثنائية تحدد دور كل من الطرفين وأسماء المشرفين وتأمين مستلزمات البحث والمدد التي سيقضيها طالبوا الدراسات العليا، ولا بد من وضع سياسة تأهيل للدراسات العليا محلية، تشجع الباحثين على استكمال دراساتهم العليا من خلال إلزام الجامعات اليمنية الحكومية بتحقيق حد أدنى من نفقات التأهيل باتخاذ قرار مجانية أو شبه مجانية الدراسات العليا باعتبارها الأسلوب الوحيد في الجامعات لتوفير اليد العاملة الجدية لتنفيذ البحوث، والتوسع في إمكانية توفير الاستقرار المادي لطلاب الدراسات العليا عن طريق المنح الدراسية أو الإيفاد الداخلي أو الإجازة الدراسية براتب أو مساعدته من مخصصات البحث العلمي أو الموارد الذاتية.

دور الشبكات العلمية وأهميته يتطلب أيضا إعادة الهيكلة، فالهيئة تشارك في العديد من الشبكات البحثية العلمية ذات الأهمية الكبرى في تطوير البحث العلمي الزراعي في اليمن، فهي ترتبط مع منظومات ومراكز بحوث زراعية دولية في دول أخرى عربية وأجنبية، يتم خلالها تبادل المعلومات والخبرات وتنفيذ بعض البحوث المشتركة، وتتيح اكتساب مزيد من الخبرات للباحثين اليمنيين، لكن آليات وضوابط عمل هذه الشبكات العلمية غير موجودة أو سرية، كما أنه في بعض الأحيان يتم تكليف غير الباحثين في إدارتها ولاتوجد شفافية في نشاطاتها العلمية، من جهة أخرى، يمكن أن تلعب الشبكات العلمية دورا في إقامة المختبرات أو وحدات بحثية مشتركة بين الجامعة والمراكز البحثية الوطنية أو الأجنبية ويتطلب من الهيئة وضع أطر وأنظمة لها تشجع على تشكيل فرق بحثية متكاملة ومتعددة التخصصات بين مؤسستين أو أكثر لدراسة مواضيع أو محاور بحثية محددة، ومنح أكبر درجة من المرونة في الاتصال والتعاون الأفقي بين الباحثين والفرق البحثية في الشؤون العلمية والبحثية دون الرجوع إلى الإدارات إلا فيما يتعلق بالإجراءات المالية، ووضع أطر منظمة للعمل الشبكي أو الثنائي، وتشجيع المشاركة في الشبكات البحثية والعربية والإقليمية والدولية خاصة في المواضيع التي تتطلب ذلك، ورصد التمويل المناسب لتفعيلها وتبادل زيارات الباحثين، وعقد الندوات والمؤتمرات، وإصدار المطبوعات مع التركيز على تفعيل الشبكات القائمة حالياً في إطار اتحاد مراكز البحث العلمي العربية واتحاد الجامعات العربية وغيرها، وتشجيع المؤسسات والأقسام والباحثين على التقدم بمشاريع بحوث للجهات المانحة وللمراكز الإقليمية والدولية، وتبسيط إجراءات الاستفادة من هذه المنح خاصة في مجالات تجهيز المعامل والزيارات العلمية والتدريب، والتوسع في الانضمام في شبكات علمية أخرى.

وفي نهاية المطاف نرى أن الكرة الآن في ملعب القيادة السياسة ممثلة بمجلس الوزراء الذي تقع عليه مسئولية ضخمة نرى أن أولى خطوات إصلاح وإعادة هيكلية البحوث الزراعية أن يكلف دولة رئيس الوزراء فريق إنقاذ وطني للبحث العلمي برئاسة شيخ الباحثين اليمنيين الدكتور عبدالرحمن عبدالقادر بامطرف، يختار من يراه مناسبا للمهمة، على أن تكون مهمة هذا الفريق التحضير لمؤتمر وطني يقوم بإعداد أوراق تتضمن مقترحات تحليل أوضاع البحوث الزراعية وتطوير وإعادة هيكلته بما يؤمن الحجم ومقترحات الإصلاح وإعادة بناء الإطار التأسيسي الذي يحتاج إلى استكمال النواقص وبحسب متطلبات التنمية والإطار التشريعي، وإصدار منظومة من القوانين واللوائح الجديدة أو تحديث الحالية واقتراح نصوص قانونية لقانون استحداث المجلس الوطني للبحث العلمي ومقترحات بالهيكلية المناسبة للإدارات ذات العلاقة والجهات المستفيدة ولجان الإشراف والرقابة على تنفيذ البحوث العلمية ونقل التكنولوجيا والتنسيق وتفعيل دور الهيئة العامة للبحوث العلمية ولجنة لمراجعة الخطط والأولويات واقتراح آلية إقرارها بمشاركة واسعة للجهات المستفيدة، ووضع التشريعات الملائمة وتقويم الأداء لفروع الهيئة وباحثيها بوضع معايير علمية تستند إلى مخرجاتها ومستوى الإنجاز العلمي لباحثيها وإعادة بناء آلية فعالة داخل الهيئة، وأن تضع الضوابط المنظمة لنشاطها وضوابط تعيين قياداتها ووضع الهيكلية المناسبة لتسويق نتائج البحوث، على أن يعقد المؤتمر في أواخر عام 2009.

* باحث أول - الهيئة العامة للأبحاث والإرشاد الزراعي

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى