عالم بلا حدود.. (عبده حسين أحمد وزمالة نصف قرن)

> «الأيام» فاروق لقمان:

> عرفته منذ الخمسينات قبل أن نفترق في منتصف العقد عندما التحقت بجامعة هندية حيث درست فيها العلوم السياسية والتاريخ وشيئاً من الاقتصاد.

ولما عدت عرفت أن الصديق وزميل الدراسة في المتوسطة عبده حسين أحمد أصبح مدرساً عام 1956 ثم نال عام 1963 منحة علمية لدراسة اللغة العربية وآدابها في السودان، حيث كان من ألمع طلبة كلية بخت الرضا. ولما عاد إلى عدن التحق بإدارة المعارف مجدداً، وظل فيها إلى أن حان موعد تقاعده.

وبالرغم من أنه كان مدرساً جيداً وموفقاً إلا أن عشقه الغريزي للصحافة كان أقوى، ومن حسن حظ دار «فتاة الجزيرة» (التي أسسها الوالد رحمه الله وأدارها ابنه البكر علي محمد لقمان) أنه انجذب نحوها عام 1956، حيث تعلم أصول المهنة وصقل مواهبه في مجالاتها المتعددة، لأن الدار كانت تصدر «فتاة الجزيرة» و«القلم العدني» وجريدة «إيدن كرونيكل» وجريدة لحساب إدارة المعارف تحت مسمى «المعلم العدني» برئاسة تحرير الأستاذ الراحل السيد حامد بن محمد الصافي، وكان الأستاذ عبده سكرتيراً لتحريرها إلى جانب انشغاله في «فتاة الجزيرة» براتب شهري قد يبدو متواضعاً اليوم (ثلاثمائة شلن)، لكنه كان يساند راتبه الحكومي، ولعل قيمته الشرائية آنذاك كانت تفوق قيمة معاش التقاعد الذي يناله اليوم بعد خدمة ثلث قرن. وهكذا ظل معنا من عام 1956 إلى آخر يوم من عمر الصحافة الأهلية بحلول اليوم الأول للاستقلال المجيد.

كان يهرع بعد انتهاء الدوام المدرسي لتناول وجبة سريعة كعادة معظم أهل المهنة، ثم يركب الحافلة إلى كريتر- كنا دائماً نسميها عدن- حيث اندمج معنا وآخرين، منهم محمد عبدالله مخشف وسعيد علي الجريك ومحمد عبدالله فارع وكافة شباب العائلة، وعمل في الطباعة مع أخي الراحل المهندس شوقي الذي كان طباعاً مدرباً، وفي الكتابة والتصحيح والتوزيع والإعلان. وساعدته إجادته للغة العربية على تصحيح بروفات الجريدة وكتابات الآخرين وإعادة صياغة بعض المقالات ورسائل القراء. وخلال أعوام كان يكتب في الفنون والرياضة وشؤون المرأة، حتى أن الأستاذ الأخ علي وهو من أفضل كتاب وشعراء وأدباء المنطقة آنذاك كان يوجهه ثم يستعين به في المراجعة والكتابة بعدما أدرك نبوغه في اللغة والأسلوب. والأسلوب كما تعلمت في الجامعة كان ولايزال من أهم أركان الخبر الصحفي والتحقيق والمقابلة، وهو الدرس الأول في الأسبوع الأول الذي تلقنته في جامعة كولومبيا عام 1962، لكنني كنت ألجأ إلى الأخ عبده حسين لفك شفرات قواعد النحو العربية عند غياب الوالد والأخ علي وشقيقه عبدالرحيم الذي كان أيضاً حجة في اللغتين العربية والإنكليزية. فكان عبده حسين يحيا كل تلك المعارف التي عاش معها وخدمها بروحه وانتفع بها، حتى أن الأخ علي محمد لقمان كان يتنبأ له بمستقبل باهر ويتمنى أن يضمه إلى كوكبة كتاب «فتاة الجزيرة» كمحرر دائم لو شاء.

ولما كنت مسئولاً عن صحيفة «إيدن كرونيكل» الإنكليزية تزاملنا طويلاً وراجعت معه القواعد التي كنت قد نسيت بعضها بعد خمسينات المدرسة المتوسطة وأستاذنا هاشم عبدالله، وحببتُ بالمقابل إليه اللغة الإنكليزية والعلوم السياسية بعدما لمست فيه رغبة وشغفاً ترافقان الصحافي الجيد، لأن المهنة أحياناً ليست بحاجة ماسة إلى شهادة جامعية لفهم خفاياها بل إلى عشق غريزي مع توجيه منتظم. فلا مصطفى أمين ولا علي أمين كانا خريجي صحافة أو إعلام بل الأول خريج علوم سياسية والآخر هندسة. ولما كان الأخ علي يهم بالمغادرة كان يشير على قيام عبده حسين بالمراجعة النهائية للصفحات قبل الطبع.

كان تأثره كبيراً بالوالد وبالأخ علي حتى أنه لايزال يحتفظ بالعديد من ذكرياته عنهما وينوي الإشارة إليها في مذكراته القادمة إن شاء الله كما ألح عليه، وبروح الفكاهة التي كانت تسود الدار أيام علي محمد لقمان وحامد الصافي ويوسف حسن السعيدي وعبدالله الطيب أرسلان وعلي عبدالله باصهي والمؤرخ حمزه علي لقمان وآل خليفة والبديجي ومئات غيرهم. ولما نلتقي في عدن خلال زياراتي النادرة أو في جدة عند قيامه بالفريضة والعمرة يحلو لنا استعادة ذكريات أحداث الأيام الخوالي وبعض القفشات والأزمات التي مرت على الدار في العصر الذهبي للصحافة اليمنية التي كانت عدن عاصمتها وقلبها النابض قبل الثورة المباركة عام 1962. ولما اندلعت أشهد أن «فتاة الجزيرة» كانت من أبرز أنصارها مع شقيقتها الإنكليزية والقلم العدني. وأسهم عبده حسين بغزارة في التغطية الصحفية لها.

ثم افترقنا بعد القرار الجائر بإغلاق صحفنا في أقل من دقيقة هاتفية وكان ذلك من أسوأ أيام حياتي، مما اضطرني إلى الهجرة، غير أنني سعدت بعد ذلك بسماع عودة جريدة «الصباح» لصاحبها ورئيس تحريرها سعيد على الجريك صاحب القلم الضاحك والأسلوب اللاذع في الحديدة، ثم بالعودة المظفرة لجريدة «الأيام» لصاحبيها هشام وتمام محمد علي باشراحيل اللذين جعلا منها منارة صحافية شامخة أكدت أمجاد والدهما الراحل الرائد محمد علي باشراحيل رحمه الله.

وسرني انضمام الأستاذ عبده حسين أحمد للكتابة في «الأيام» الغراء بعمود رائع تحت عنوان (كركر جمل) الذي ابتكره معلمه وزميل المهنة الأخ علي محمد لقمان في بداية خمسينات القرن الماضي. ولما كنت أواظب على قراءة «الأيام» كل يوم أحرص وأستمتع بمقالات الأستاذ عبده لأنه يشتمل على الأسلوب الرشيق والفكر النير والتعبير البليغ وتنوع المادة والنقد البناء وأحياناً السخرية اللاذعة بغير إسفاف. وكما أحمد الله كثيراً على أنه مد بعمر أستاذنا يوسف حسن السعيدي حتى تجاوز التسعين وهو بصحة جيدة مما مكنني من الكتابة عنه في حياته، أدعوه سبحانه وتعالى أن يطيل بعمر الأستاذ الصحفي والمربي القدير عبده حسين أحمد الذي بلغ الرابعة والسبعين من عمره المديد وهو يحمل قلماً رائعاً حتى في سريره كما كان يفعل الأستاذ مصطفى أمين رحمه الله.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى