خير أجناد الأرض

> د. هشام محسن السقاف:

> الذين يؤاخذون عبد الناصر عدم أخذه بالديمقراطية ـ رغم أن مبدأ العدالة الاجتماعية في عهده لا تخطؤه العين ـ ينسون ظروف تلك المرحلة، حيث لم تكن الديمقراطية معياراً في ظروف الحرب الباردة. وإذا أراد عبد الناصر أن يوظف شعبيته الكاسحة في انتخابات بعينها لحصد جلَّ الأصوات ليس في مصر فقط، ولا حتى في الوطن العربي فحسب، وإنما في أفريقيا وغيرها من بلدان العالم الثائرة ضد الاستعمار في ذلك الوقت، وتحديداً بعد تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي عام 1956م.
والمشهد المصري ـ الآخذ بالأبصار والألباب، كما شاهده العالم أجمع ليلة الثلاثاء الماضي، بإعلان فوز عبد الفتاح السيسي بنسبة 96.6% في انتخابات حرة ونزيهة، باعتراف جميع المراقبين، بما في ذلك الغربيين ـ يجعلنا في حلٍّ من أمر الانصياع لمقولة "التاريخ يعيدُ نفسه" الخاطئة علمياً أصلاً، عند عقد مقارنة بين عبد الناصر والسيسي القادمَين أساساً من مؤسسة الجيش المصري، فلكل رجل ظرفه التاريخي المغاير، وكلاهما حتمية تاريخية للإفلات من وضع انهيار الدولة، لتنتصر فكرة رسوخ (المدنية) المصرية في مداها الزمني منذ الفراعين حتى الآن، والذاهبة عمقاً في الذات السلوكية والاجتماعية للمصري القائم على ضفاف النيل منذ إرادة التوحيد والإيمان بالبعث وبناء الأهرامات كواجهة لحضارة سامقة.
وفكرة الدولة المدنية بالتضاد مع العسكر قد تصلح في أي مكان آخر في الدنيا إلا في مصر منذ توحيد القطرين في عهد مينا، وعندما تعجز حملة نابليون بونابرت ـ مطلع القرن التاسع عشر ـ عن ترسيخ فكرة المدنية الفرنسية بالحراب الاستعمارية في مصر المملوكية وهي في طور الذبول، تنشأ إرادوية تغييرية تجتاز إرث "الانكشارية" العثمانية بعبقرية الحالة المصرية التي ولَّدَتْ "الوطنية" بتمصير "الحاكم" الانكشاري، ثم لم تعد - بعد ذلك - الحدود الوطنية حائلاً لمد أراضيه إلى حيث يمكن لخيل مصر أن تهدد "الاستانة" نفسها، لتقرع أجراس التوجس الأوروبي مسترجعة ذاكرته حلقاتٍ من المشهد الأموي والعباسي الناهض هذه المرة بإرادة غير عربية يمثلها إبراهيم باشا، اتساقا - ربما - مع حقيقة أن القومية العربية بالولاء وليست بالدماء.
وعند ترجيح الصيغة الوطنية بصيغتها المصرية الصرفة بعد التدخل الأوروبي العابث بالمقدرات في ظل "خديويهات" ما بعد هزيمة إبراهيم، كانت ثورة أحمد عرابي الفاصح عن نهج مؤسسة الجيش الوطني الرافض للهيمنة.
إن العرب عائدون من سفر طويل بعد خروج مصر من المشهد الإقليمي بعد عبد الناصر، وما لحق بهم من هوان وتهميش من منطلقات غربية لتثبيت إسرائيل كدولة محورية تسيِّر دفة الأحداث، ثم الذهاب قدماً لسرقة ما سمي بالربيع العربي، وتقديم نسخ مشوهة من النموذج التركي يتولى تفتيت الدولة القطرية نتاج سايكس / بيكو عن طريق الفوضى الخلاقة (وهي عكس ذلك) كما روجت لها كونزاليزا رايس، لتفتيت المفتت وتحقيق الشرق أوسطية الجديدة بالدولة المذهبية والعرقية الصغيرة التي لا تمتلك سوى كتائب للمراسيم العامة و(شرط) لقمع المواطنين.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى