العميان من أصحاب العيون السليمة

> جلال عبده محسن

>
جلال عبده محسن
جلال عبده محسن
رغم عجزهم وضعفهم وقلة حيلتهم والتي تصل إلى حد البؤس والشقاء جراء الإعاقة، ورغم آلامهم وجراحهم وصعوبة عيشهم، وظروف حياتهم القاسية، إلا أن هناك مجموعة من العباقرة هزموا اليأس وتفوقوا على أنفسهم وانتصروا على عاهاتهم مثل سقراط وبيتهوفن وطه حسين وغاندي وتولستوي وإبراهام لنكولن وليوناردو دافنشي وهيلين كيلر، وساهموا بأفكارهم التنويرية في نمو وتطور التنمية المجتمعية والإنسانية بشكل عام.
كما أن هناك من البسطاء ممن يتألمون وفي ذروة إحساسهم بالألم نجدهم قادرين على إسعاد الآخرين ومواساتهم في أوقات المصائب والمحن وتقوية عزائمهم في وقت الانكسارات وبطريقة تبعث على التفاؤل وزرع الأمل في نفوسهم ورسم الابتسامة على شفاههم، هم أحوج إلى ذلك منهم.
وتروي لنا قصص الحياة المشهد ذاته عن قصة الرجلين اللذين كانا نزيلي أحد المستشفيات وفي غرفة واحدة، أحدهما كان مسموحا له الجلوس في سريره لمدة ساعة يوميا بعد العصر، ولحسن حظه فقد كان سريره بجانب النافذة الوحيدة في الغرفة، أما الآخر فكان عليه أن يبقى مستلقيا على ظهره طوال الوقت.. كان المريضان يقضيان وقتهما في الكلام، دون أن يرى أحدهما الآخر، لأن كلا منهما مستلقٍ، وفي كل يوم بعد العصر كان الأول يجلس في سريره حسب أوامر الطبيب، وينظر من النافذة ويصف لصاحبه العالم الخارجي: “في الحديقة كان هناك بحيرة فيها البط، والأولاد صنعوا زوارق من مواد مختلفة وأخذوا يلعبون بها داخل الماء، ومنظر السماء كان بديعا يسر الناظرين وهو يسمع زقزقة العصافير والمناظر الخلابة”، وفيما يقوم الأول بعملية الوصف هذه ينصت الآخر في ذهول لهذا الوصف الدقيق والرائع، ثم يغمض عينيه ويبدأ في تصور ذلك المنظر البديع للحياة خارج المستشفى.
وفي أحد الأيام جاءت الممرضة صباحا لخدمتهما كعادتها، فوجدت المريض الذي بجانب النافذة قد قضى نحبه خلال الليل، فحزن صاحبه أشد الحزن عليه، وفكر في أن يستعيد تلك المشاعر الجميلة، وقرر أن يحاول الجلوس ويفعل كما كان يفعل صاحبه، فتحامل على نفسه وهو يتألم، ورفع رأسه رويدا رويدا مستعينا بذراعيه، ثم اتكأ على أحد مرفقيه وأدار وجهه ببطء شديد تجاه النافذة لينظر للعالم الخارجي، وهنا كانت المفاجأة، لم يرَ أمامه سوى جدار أصم من جدران المستشفى.. نادى الممرضة وسألها إن كانت هي النافذة التي كان صاحبه ينظر من خلالها، فأجابت إنها هي، فالغرفة ليست فيها سوى نافذة واحدة.. ثم سألته عن سر تعجبه، فقص عليها ما كان يرى صاحبه عبر النافذة وما كان يصفه له، كان تعجب الممرضة أكبر، إذ قالت له: ولكن المتوفى كان أعمى، ولم يكن يرى حتى هذا الجدار الأصم.
وحينها أدرك بأن صاحبه لم يكن أعمى البصيرة كما هو حال الكثيرين في زمننا هذا ممن حباهم الله نعمة الصحة والعافية ونعمة المال والجاه والسلطان والعيش الرغيد وغيرها الكثير من الوسائل التي تمكنهم من مساعدة ومواساة الآخرين في شدتهم والتخفيف عنهم، ومع ذلك نجدهم عاجزين عن تقديم المساعدة حتى إلى أنفسهم، لأنهم محرومون أصلا من نعمة البصيرة، ولا عجب في ذلك بأن يضع سره في أضعف خلقه، لتثبت لنا الحياة أن هناك الكثيرين من العميان من أصحاب العيون السليمة، وأن هناك من المبصرين وإن كان بعضهم لا يملك سلامة العيون إلا أن البصيرة لديهم تحل محل البصر والرؤيا مكان الرؤية.. ولله في خلقه شؤون.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى