بــرّ يـتـيمــة

> سلطانة الباحوث

> انتهت مراسم تشييع الجنازة، وها نحن اليوم قد تجاوزنا قضبان الحداد السوداء، فكل شيء يسير عاديًا بعد أن أصبح منزل العائلة مهجورًا، وقد غادره الجميع، وكتب عليه (للبيع).
كان موعدنا الساعة الرابعة مساءً، والجميع يعد أنصاف الساعات والدقائق يتأهبون في ذهاب وإياب انتظارًا لقدوم المحامي والمشتري لتقسيم الميراث، وفجأة بدّد ذلك السكون الشامل ضجة عالية انبعثت من الخارج.
وكان الصوت يقترب شيئًا فشيئًا حتى فتح ذلك الباب الخشبي، ودخلت منه سيدة في الستين من عمرها أو يزيد، كانت تلك الضجة هي من وقع خطواتها الثقيلة؛ إذ كانت تحمل عكازًا بيديها تحمي به نفسها من السقوط، وكانت قد دثرت كامل جسدها بخمار أسود اللون، تأوهت قليلاً، لكنها سرعان ما عاودت تحريك قدميها بعدما أخذت تنظر إلى كل واحدٍ فينا مليًّا حينها ابتسمت ابتسامة تنم عن عدم الرضا والضيق، فنظرت إليها وأنا أحتبس الدمعات فهممت بأن أقول: ... لكنها رمقتني بنظرة عجلى وقالت بصوت مشحون بشتى ألوان الحزن: “هذا سيحدث آجلاً أم عاجلاً، لا عليكِ سوى الصمت والطاعة”.
فمكثت في صمتٍ مضنٍ ومؤلم أنتظر حدوث النهاية، فسبحت في خيال والذي جسد لي صورة والدي رحمه الله، فنشجت نشيجًا حارًا، وهتفت في نفسي بحده لن أجعلهم يبيعون آخر أنفاس والديّ حتى وإن كلفني ذلك دينًا طوال حياتي.
في وقت كان تبرم إخوتي الأربعة الأكبر مني سنًا قد قضى على ما بقي من أعصاب، ولقد كدت أختنق من إصرارهم على البيع رغم أن أحوالهم المادية ميسورة كثيرًا، ولكني لزمت الصمت احترامًا لوالدتي.
وفجأة عدت إلى الواقع بعدما أمرنا أخي بإسدال الخمار إعلانًا عن قدومهما، وقتها باشر المحامي عمله، وأخذ يسأل كل واحد فيهم حتى أتى دوري ليسألني فصمت صمتًا عجيباً، ولم أنبس بنبت شفة، وقتئذ أحسست بزفير أحد إخوتي والقريب مني جدًا، فشعرت بشيء راسب في أعماقي يلح علي بأن أنصت إلى قراراتهم حتى وإن لم يعجبني ذلك.
فقلت بصوتٍ خافتٍ ودون وعيٍ مني: “لست موافقة ..!”.
فتهالك المحامي متعجبًا في مقعده، أما أخوتي فقد أخذوا ينظرون إلي بنظرات التهديد والوعيد، ولم تمضِ لحظة حتى عاد ليسألني مرة أخرى، فهززت رأسي في اكتئاب فانبسطت أسارير إخوتي.
وفي غمرة الحديث نهضت من مقعدي وراح الكل يرمقني بنظرات الدهشة فهتفت في مرارة: “لن يباع المنزل”؛ فنهض أخي الأكبر كالصريع وأمسك بذراعي بشدة فقلت: “بل موافقة، وسأوقع ولكن على شراء المنزل، وليكتب المحامي إثباتا على كلامي بحضور والدتي وشهادتكم، وليبق المنزل مفتوحا للجميع.
فتنهدت والدتي في ارتياح بالغ وانتهت الجلسة.
**سلطانة الباحوث**

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى