فـي الـذكـرى الـعـاشـرة لـرحـيـل الأديـب عـبـد الله بـاوزيـر (1 – 2)

> عادل سعيد القدسي

> عن (ملك الكتابة الساخرة) أحاول الكتابة، وأحسبُ أن من الصعب على مثلي، ومن العسير عليه أن يكتب عن هذا الأمير الجميل (أمير القصة اليمنية)، بَلِه أن يحيط (بعالم الباوزير) الفسيح والواسع في ذكرى رحيله العاشر بالتأكيد مثلي لا يستطيع أن يكتب عن مثله، وأعترف هنا، والاعتراف – وفق رجال القانون – سيد الأدلة، لكنها المحاولة – أو شرف المحاولة – أن أكون قريبًا من مثل هكذا قامة رفيعة، وهامة عالية .. يحدوني قول من قال:
وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه بالكرام فلاح
وأتكلم هنا عن (واحد متعدد) أو عن (متعدد في واحد) .. أتكلم هنا عن الإنسان الفنان، أو عن الفنان الإنسان .. أتكلم هنا عن الأديب القاص والفنان عبد الله سالم باوزير، رحمه الله تعالى.. لا تذهبوا بعيدًا من قولي بعاليه، وترسمون للرجل صورة خيالية تجنح بكم نحو التعالي والغطرسة والكبر، تماما على العكس من ذلك عالم الباوزير عالمنا نحن، عالم الناس (اللي تحت) عالم البسطاء والبؤساء والتعساء، عالم المظلومين والمقهورين والمهمشين، هو هكذا (خِلقة ربِنا) في غاية البساطة، في منتهى التواضع، تنظره في نحافة جسمه (عود قصب مائل) - وفق تعبيره هو - تنظره في ملبسه المتواضع، في مسكنه المتواضع، في معيشته المتواضعة، فهو الإنسان الأبيض ذو القلب الأبيض، لكنك ما إن تقترب من (عالمه الآخر) عالم الإبداع والعطاء والتميز تصطدم بقامة كبيرة وكثيرة في منتهى العلو والرفعة والشموخ.
الكتابة عندما تكون موقفًا ومسئولية من دون شك فإن المكانة المتقدمة التي أحرزها (عاشق السرد) و (أمير القصة اليمنية) لم تأتِ من فراغ، ولم تتحقق بالفهلوة، وشغل الارتزاق، لكنها جاءت نتيجة صبر ومصابرة، نتيجة معاناة وألم ومشقة، نتيجة جهد ومثابرة وعصامية عالية !!.
قلم الباوزير الساحر والساخر كان منحازًا – وبالمطلق – باتجاه الناس - كل الناس - وكان ملامسًا لهم، ملاصقًا لمعاناتهم، ولسبب بسيط - في منتهى البساطة - لأنه من بينهم أتى!!، ولم يلعب الباوزير لعبة (البيضة والحجر) التي يحذقها الكثيرون، لكنه كان قلمًا ملتزمًا بقضايا أمته وهموم شعبه، عاش (خلوًا) من الانتماءات الأيدلوجية والحزبية، كما كان (عدوًا) للأمراض الطائفية والعنصرية، لم يكن (رقيقًا) للوظيفة العامة وفقًا للعقاد، وهي التي قيدت الكثيرين، وحبستهم في مقاعدها الأثيرة، عاش كالعصفور يحلق فوق الأغصان الجميلة، والحدائق الغناء يغني للأمل .. للحب .. للحرية .. للجمال .. للحق والعدل لكأنَّه هو من عناه الشاعر بقوله:
منْ لي بمثلِ مشيه المدلل
يمشي الهوينا ويجئُ الأول
إنسان تكاملت فيه صفة الإنسنة أو تكاد .. ولله وحده الكمال سبحانه.
غيل باوزير .. غيل الإبداع والعطاء في بيئة بدائية بدوية كان مولده نستمع للباوزير وهو يرسم بقلمه الأنيق والرشيق الساخر الساحر هذه اللحظة:
“في مخزن مظلم بين (قُفف) التمر والطعام، وبجانب جُحر الفئران، وفي الموضع الذي وضعت فيه قطتنا صغارها من أسبوع، سقط رأسي قضاءً محتومًا، ومنذ تلك اللحظة من فجر الثامن من ذي الحجة سنة 1358 هـ 30 مارس 1938مـ صرتُ واحدًا من سكان كوكبنا الأرضي، ومن فصيلة بني البشر بالذات” (أنا والحياة ص 19).
في هذا المحيط الذي أحاطه الثالوث الرهيب (الفقر – الجهل – المرض) من جميع جهاته نشأ الباوزير، وتربى وترعرع، وُلد وفي فمه ملعقة من (صَبِر و مُر) على الحقيقة لا على المجاز !!، وعلى صدره وظهره (ندبات) لا تزال تؤشر على (النار الحامية) التي صلته واقعًا لا خيالاً !!، ثم كان (زواجه) مع (الفقر) ومن المهد إلى اللحد !!.
تصوروا .. من منتهى وفائه مع (سي السيد) الفقر أن من أهم الأشياء التي تخيف الباوزير هو أن يكثر المال بين يديه .. تصوروا !!، ولقد كان الباوزير في منتهى الأمانة والمسئولية والوفاء بهذا الفقر.. أقصد الزواج (غيل باوزير) من أعمال محافظة حضرموت، كانت (محطته الأولى)، وفيها كان تفتق وعيه الأول في أسرة كريمة عرفت العلم والفن والتنوير، رضع هذا الفتى خدمة خاله ذي الثقافة العالية الأستاذ والمؤرخ /سعيد عوض باوزير - والد شيخنا الفاضل القامة القرآنية العدنية / أمين سعيد عوض باوزير - وهو من أهم الشخصيات التي تأثر بها الباوزير، وخدمته كذلك مكتبة خاله ومجالسه التي كانت تنعقد في منزله، كما كان لخاله الأصغر الفنان/ سالم عوض باوزير – كذلك – أثر واضح على شخصية الباوزير، ونجاحه في جانب الرسم والعزف على العود حتى والده الذي رحل باكرًا عن دنياه.
وعاش مشتتًا بين عالم الاغتراب والمرض (سجل) بقلمه بعض الخواطر والذكريات البسيطة إذاً هي (غيلُ باوزير) المنطقة والأسرة التي (ضخًّت) للوطن الكبير – ولا تزال – أسماء كبيرة وكثيرة ولامعة، وذات شأن.
وكبر الفتى (عبدالله) وكبرت معه مسئولياته – عقب عودة والده من مغتربه – ولربما كان هذا الكبر إن بدا له (غيل باوزير) أصغر من طموحاته وأحلامه، فكان (الاغتراب) هو عنوان (المحطة الثانية).
في الحلقة الثانية سنسرد المحطة الثانية من حياة الأديب القاص والفنان عبد الله سالم باوزير، رحمه الله تعالى .. لا تذهبوا بعيدًا.
**عادل سعيد القدسي**

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى