الـسـيـاسـة لـعـبـة لُـغَـويَّـة (2 - 2)

> د. سالم عبدالرب السلفي

> **استثمار النص المقدَّس والرموز الدينية**
يتسم الخطاب السياسي بسمة أساسية هي أنه يوظف النصوص المقدسة والرموز الدينية بشكل كبير ولافت، ومن المألوف أن يبدأ الخطاب السياسي بعبارة من كتاب مقدس، لكن هناك ظاهرة عجيبة في الخطاب السياسي، هي أنه لا يوظف النص الأدبي توظيفه للنصوص الدينية، وهذا يعود في نظري إلى أن الأدب في الأصل عدو السياسة، لأن اللعبة السياسية تقوم على التكتلات وعلى العدائية للأطراف المخالفة، في حين ينحو الأدب منحى إنسانيًا ويدعو إلى المحبة.
ولا شك في أن النص الديني أولى من الأدب في إنسانيته ونشر المحبة، إلا أن هناك فوارق ثلاثة بين النصين الأدبي والديني في إطار الخطاب السياسي تجعل الأخير هو النص الأثير فيه:
الأول: يتمثل في أن الأدب نص بشري والبشر لا ينصاعون لكلام البشر كثيرًا، في حين إن النص الديني نص إلهي، ومن هنا فتأثيره أقوى وأكبر.
الثاني: يتمثل في أن النص الديني يتسم بأنه حمّال أوجه، ويستطيع كل حزب سياسي أن يوظفه لمصالحه، وهو ما لا يوجد في النص الأدبي الخطابي أو الحكمي الذي لا يحمل عادة إلا وجهًا واحدًا.
الثالث: يتمثل في أن الساسة لا يجدون في النص الأدبي ما يسبغ عليهم شرعية، في حين إن النص الديني يوظف في الخطاب السياسي بخبث يبدو معه النظام السياسي وكأنه خليفة الله في الأرض.
ويميل الخطاب السياسي إلى استثمار النص المقدس، لأنه النص الأكثر تأثيرًا والأسرع إلى قلوب المتلقين، لكن مع الأسف يتم هذا الاستثمار في الخطاب السياسي لنوايا غير حسنة، فهو عادة ما يستخدمه لأمرين متناقضين كلاهما سلبيّ:
الأمر الأول: إشعال نار الفتنة، وإثارة العصبيات الدينية والطائفية، ويشيع في الخطاب السياسي أو الخطاب الديني المسيَّس إطلاق عبارة واحدة تصم المخالفين السياسيين بالكفر، ليتم التخلص منهم على أيدي أشخاص يبدون أنفهم ينفذون حكم الله في الأرض، ولم تكن عبارة (بوش) التي تحدث فيها عن أن الحرب على (أفغانستان حرب صليبية)، زلة لسان، بل هي عبارة مقصودة أراد للجميع أن يسمعها، ثم هو قادر على أن ينوم من يعترض عليه بعبارات المراوغة التي تحدثنا عنها.
الأمر الثاني: إخماد نار العقل والرغبة في التغيير، باستثمار النصوص الدينية التي تكرس لبقاء الحكام، والطاعة العمياء، وتثبيت الأوضاع والفوارق الطبقية بوصفها أقدارًا محتومة، وهم في هذا يجتزئون النصوص ويغطون حقيقة الدين الرافضة للجمود على مستوى الفكر، وعلى مستوى الأوضاع المادية، ومن المؤسف أن نقول: "إن مقولة (الدين أفيون الشعوب) تتحقق تمامًا في معظم التوظيف السياسي للنص الديني".
**طغيان الوظيفة الطَّلَبيّة**
الوظيفة الطَّلَبيّة هي الوظيفة التي يتجه فيها النص نحو المتلقي أو المرسل إليه، ولا شك في أن المتلقي أو المرسل إليه حاضر بقوة في بنية الخطاب السياسي؛ إذ لا يمكن تصور خطاب سياسي من دون تصور متلق له يُصْنَع هذا الخطاب من أجل التأثير فيه وإقناعه، ويتم ذلك عادة بتوظيف أساليب الأمر والنهي والنداء، وهي أساليب تسم النص بالنزعة الخطابية، وتتجه الوظيفة الطَّلَبيُة في الخطاب السياسي نحو تحقيق بعض الأمور الآتية:
-1 التأثير في موقف المتلقي تجاه النظام السياسي المصدر للخطاب، لضم أكبر قدر من الأنصار إلى صفوفه.
-2 ردع المتلقي المعارض للنظام السياسي وزجره بالتهديد والوعيد أو بالتلويح بالعقاب.
-3 كسب رضا الناخبين بالتودد إليهم واستخدام عبارات لطيفة وودودة، وفيها كثير من الوعود، مثل: (انتخبونا من أجل التنمية، لا تخافوا ما دمنا معكم، ...).
-4 كسب رضا الدول الكبرى والمنظمات الدولية، وتتشح اللغة هنا بذل السؤال، ويتحول الأمر والنهي إلى طلب ودعاء واستجداء، مثل: (ارضوا عنا، لا تحرمونا من دعمكم، انظروا إلينا بعين الرحمة، ...).
وقد التفت الناقد رومان جاكبسون إلى أن الخطاب السياسي يمكن أن يؤدي الوظيفة الشعرية في (الشعارات السياسية)، والمقصود بالوظيفة الشعرية أن الخطاب يلفت المتلقي إلى لغته، فيصرف المتلقي شطرًا من الزمن، وهو أمام اللغة التي يتشكل منها الشعار متأملاً فيها معجبًا بصياغتها قبل أن يبحث عن المعنى الكامن وراء هذه الصياغة.
ولا يقف المتلقي عند لغة خطاب ما إلا بسبب أن هذه اللغة تتضمن جماليات معينة تتعلق بالإيقاع أو التصوير أو الإزاحة في بنية التركيب، وإذا كانت لغة الخطاب السياسي عمومًا تصنع بعناية كما قلنا من قبل فإن لغة الشعارات السياسية تبلغ فيها العناية أقصى درجاتها، لأن الشعارات عبارة عن جمل قصيرة جدًا، ومطلوب حفظها وترديدها في المحافل المختلفة، ومن هنا فهي محط اهتمام صانعيها ليجعلوا الجماهير أكثر اهتمامًا بها، والذي يؤكد طغيان الوظيفة الشعرية في (الشعارات السياسية) أن كثيرًا من الجماهير تحفظ تلك الشعارات معجبة بصياغتها اللغوية دون أن تفهم معناها!.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى