طورالباحة.. تحت خط الظمأ ومشروع مياه إسعافي طيلة 8 سنوات يبحث عمن يسعفه

> تقرير/ علي الجبولي

> طور الباحة إحدى المديريات الريفية المترامية الأطراف بشمال غرب محافظة لحج، وتعد من أكبر مديرياتها، إذ تبلغ مساحتها نحو 1883 كيلومترا مربعا، بينما يربو عدد سكانها على 57 ألف نسمة.. تبعد عاصمتها عن مدينة الحوطة عاصمة لحج بنحو 90 كم.
وضعها كأوضاع كثير من مناطق الوطن تئن طور الباحة تحت وطأة أزمة مياه الشرب والاستخدام المنزلي، ومياه الري الزراعي، حيث أكدت عديد من الدراسات أن المنطقة لا تعاني من ندرة المخزون الجوفي فقط بل ومن فقر المخزون السطحي أيضاً، إذ لا يزيد مستوى منسوب المياه في أعمق الآبار بالمنطقة عن 40 مترا، كما تفتقر للحواجز المائية والسدود التي تحفظ مياه الأمطار لتغذية الخزانين الجوفي والسطحي. كما تعاني من قلة الأمطار، وانعدام مصادر المياه الأخرى، إضافة إلى داء الفساد الذي تسبب بانهيار مرفق المياه الحكومي، وعطل إنجاز مشروع المياه الإسعافي لأكثر من ثماني سنوات.
الزراعة أكبر القطاعات المتضررة من انعدام المياه في طور الباحة
الزراعة أكبر القطاعات المتضررة من انعدام المياه في طور الباحة

هذه العوامل جعلت أزمة المياه واحدة من أعقد مشاكل المنطقة، وأصبح حصول سكانها على مياه صالحة للشرب والاستخدام المنزلي مشكلة معقدة بمفهومها الحقيقي والشامل، هوت بهم إلى تحت (خط الظمأ)، بل وبعض المناطق تكاد تنعدم فيها المياه كليا، مما يكبد سكانها - خاصة النساء والأطفال - مشاق يومية في رحلة البحث عن الماء من بلدات بعيدة، ويبدد قسطا كبيرا من دخل الأسرة لشراء الماء. “الأيام” استطلعت أوضاع هذه المديرية وخرجت بمعاناة ومتاعب الأهالي الآتية:
**الفساد والنهب**
ابتلعا مؤسسة المياه
سيارة تابعة لمؤسسة المياه والصرف الصحي بطور الباحة
سيارة تابعة لمؤسسة المياه والصرف الصحي بطور الباحة

تأسس فرع مؤسسة المياه الحكومي بطور الباحة عام 1980م، وقد استطاع توفير مياه الشرب للمدينة وقرى ضواحيها، ثم توسعت خدماته حتى غطت نحو ثلثي سكان المديرية، غير أن البنية التحتية لفرع المؤسسة وممتلكاته تعرضت خلال حرب صيف 94م لنهب وتخريب وسرقة، الأمر الذي قضى عليها، وأصابت فرع المؤسسة بالشلل التام، فتوقفت خدماته لخمس سنوات لاحقة، نهبت خلالها ما تبقى من آلياته ومعداته وأصوله، وتلفت معظم خطوط شبكات النقل الرئيسة والفرعية.
وبدعم الاتحاد الأوروبي والمنظمات المانحة ومؤسسة مياه عدن حصل فرع المياه عام 2000م على مئات الملايين من الريالات والآليات والمعدات، لتحديث وتوسيع وتطوير بنيته التحتية، وقد رفد بمحركات ومضخات ومولدات كهربائية جديدة ومضخات غاطسة مع جميع ملحقاتها، وبفضل إدارته الشابة حينذاك أعيدت جاهزية 8 محركات مع مضخاتها ومولداتها، كما خضعت الآبار القديمة للصيانة فزاد إنتاجها، بالإضافة إلى حفر آبار جديدة نجحت منها واحدة، وقد شملت أعمال التجديد والتحديث معظم أصوله ومكوناته، كما أعيد تأهيل شبكات التوزيع وخطوط الضخ الرئيسية وعدادات الاستهلاك، جددت وحدثت الخطوط الناقلة وشبكات التوصيل الرئيسية والفرعية بأنابيب جديدة مجلفنة وبلاستيكية من مختلف الأقطار، إضافة إلى رفده بعمالة جديدة، وتأهيل وتدريب بعض العمال والإداريين لرفع كفاءاتهم في الجوانب الفنية والمالية والإدارية، كما تم تركيب وتشغيل خمسة محركات ضخ كهربائية جديدة مع ملحقاتها من عدادات قياس الضخ، وكابلات الربط من موقع الخزان التجميعي، لتشغيلها من موقع واحد، كما رفد بصهريج محروقات، وحفار لتصفية الآبار، وآليات وسيارات حديثة.
صينت مكونات المشروع وأصبحت 8 آبار جاهزة تضخ يوميا نحو (1400) متر مكعب، لم يحل عام 2004م حتى كان فرع المياه قد تعافى من سقمه واستعاد كامل نشاطاته، وفي عام 2006 أنشئت محطة إعادة ضخ مركزية وخزان تجميعي استراتيجي مع توابعه لجمع حصاد أربع آبار لتوزيعه عبر خطوط الإسالة إلى المناطق الواقعة جنوب الخزان، عاد الماء إلى جميع المناطق التي ظلت تعاني من العطش منذ أن انقطع عنها خلال التسعينات، غير أن هذا الأمر لم يدم طويلاً فأيادي الفساد والنهب سرعان ما عادت مرة أخرى لتنهب وتعبث بمكونات فرع المياه وأصوله وآلياته ومعداته ومضخاته.
مع حلول 2009م، بدأت خدماته تنهار، نضبت مياه آباره، وتعطلت مضخاته ومحركاته، فتوقفت التغذية عن المنطقة بكاملها بما في ذلك مدينة طور الباحة ومرافقها الخدمية، ولم يمض عام حتى باتت خدماته في مستنقع الانهيار التام، انقطعت مرتبات عماله، أجبر العطش أسرا كثيرة على النزوح من موطنها إلى مواطن تجد بها ماء الشرب، مع هذا الحال الذي تردى أخذ داء الفساد والسطو ينخر جسده الواهن.. لم تر فيه مافيا الفساد من مختلف العيارات سوى فريسة دسمة مثله مثل كثير من المؤسسات والمرافق العامة التي ظفرت بها من قبل حتى تمكنت من نهب أهم آلياته وممتلكاته ومعداته ولم يبق منه شيء.
**مشاهد ظمأ مؤلمة**
النساء أكثر الفئات معاناة من أزمة شح المياه في طور الباحة
النساء أكثر الفئات معاناة من أزمة شح المياه في طور الباحة

لن تفي لغة الحديث بوصف مأساة أزمة افتقار طور الباحة، بما في ذلك عاصمة المديرية لمياه الشرب، ولا المتاعب التي يعانيها 40 ألف إنسان، كانوا مستفيدين من خدمات مؤسسة المياه الحكومية، مضافا إليهم 17 ألف نسمة كانوا خارج نطاق خدمتها.
أطلت أزمة المياه على المنطقة بشكل كبير منذ انهيار خدمات فرع المياه مطلع عام 2009م بشكل يومي وهو ما أدى إلى تراجع إنتاجية بعض الآبار من الماء إلى لترات، في حين قد توقفت الأخرى عن الإنتاج نهائياً، لقد أحكم العطش الخناق على أبناء المنطقة، وأصبحت مرافق خدمات المدينة بدون ماء، الكل يواجه الظمأ بصبر يفوق حدود الاحتمال، اشتد الهلع، غدت المشاهد مؤلمة، صبحاً وعشية يختلط الباحثون عن ماء الشرب، قوافل حمير، أرتال سيارات، أفواج نساء، أطفال وطفلات في عمر الزهور، الكل يبحث عن ماء الشرب، يحمله على رأسه، فوق كتفه أو على حماره، والأيسر حالا على سيارته.. للنساء والأطفال النصيب الأكبر من متاعب جلب الماء، لكن أين الماء؟ عادوا إلى ما تبقى من الآبار القديمة وآبار المزارعين اشتروا الماء لكن مشاكل انعدام الديزل وارتفاع سعره فاقمت المعاناة، ورفعت سعر الماء، وأي معاناة أشد من معاناة الظمأ؟!.
آبار المزارعين لم تعد اليوم تستطيع مواجهة مشكلة بهذه الضخامة، معظمها نضب وأخرى توشك، وما صمد في بعض المناطق لم يعد يضخ ما يكفي لري زرع، ولا يروي ذات ضرع.. أغلب البلدات لا يوجد بها آبار زراعية، أما آبار بيع الماء فيخنقها الازدحام وتهدد بالإغلاق، آبار البراحة القديمة جفت عدا ما ندر، الأزمة تهدد كل يوم بالتحول إلى كارثة.. أسر عديدة أجبرت على النزوح من المنطقة دونما توقف.. جاع العمال وهم لسنين طوال بدون مرتبات، بعض ضعفاء النفوس منهم نهب ما طالته يده من مضخات أو مولدات أو سيارات أو معدات مؤسسة المياه.
ثمة خمس قرى صغيرة فقط في المنطقة لديها مشاريع مياه أهلية صغيرة تعصم أهلها من الظمأ والتعب إذا ما كتب لها البقاء والسلامة من غوائل التخريب.
**مياه شرب ملوثة**
الأطفال كذلك يعانون بجلب المياه على ظهور الدواب من مناطق بعيدة
الأطفال كذلك يعانون بجلب المياه على ظهور الدواب من مناطق بعيدة

لئن كانت أزمة المياه في طور الباحة عامة فإنها في البلدات الجبلية في غربها وشرقها أشد خطرا وبشاعة، ففي تلك البلدات الجبلية مشاهد حياة بائسة لا تختلف عن حياة العصور البدائية في الحصول على الماء، إذ لا يوجد بها آبار زراعية، وآبار البراحة القديمة جفت، عدا ما ندر، كما تفتقر لطرق صالحة لسيارات بيع الماء، وبعضها نائية ووعرة مما يضاعف سعره، لذا تضيق أزمة المياه الخناق على أعناق أبنائها، وتضعهم أمام خيارات أحلاها مر، إما الهلاك ظمأ أو شرب مياه شديدة التلوث مما تخلفه الأمطار، أو شديدة الملوحة من البرك والأحساء لا تصلح حتى لشرب الحيوان، أو النزوح عن الديار قسرا، وهو ما حدث فعليا نحو مناطق تتوفر فيها المياه.
**منظمات تستثمر الأزمة**

مثلما يستغل الفاسدون وعصابات التحايل معاناة نازحي الحروب يبدو أن معاناة أهالي طور الباحة من أزمة المياه أغرت قائمين على بعض المنظمات والصناديق لاستغلالها، ليس للتخفيف منها وإنما للنهب وجني الأموال، فخلال السنوات الخمس الماضية بدأت بعض المنظمات بممارسة نشاطاتها في المنطقة بزعم إنشاء مشاريع مياه تحت مسميات مختلفة: مضخات طاقة شمسية، سقايات، خزانات، حواجز وغيرها وبتمويلات مشبوهة، غير أن جميع هذه المشاريع كانت فاشلة، فتلكم المنظمات تختار سماسرة تثق بهم تسميهم مقاولين أو منسقين تصرف لهم فتاتا من الأموال لتمويل مشاريع مياه تسميها أهلية سريعا ما يتبين وهميتها وفشلها، مما يكشف أن القائمين على تلك المنظمات والصناديق لم يسعوا فعليا إلى توفير مشاريع مياه فعلية مفيدة للسكان وإنما للحصول على طريقة للاحتيال على أموال المانحين بزعم استيعابها في مشاريع مياه.
ففي ظل غياب الرقابة والمحاسبة يصرف قسط يسير من الأموال لتلك المشاريع المزعومة بينما يذهب النصيب الأكبر لمصلحة القائمين على تلك المنظمات والصناديق.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى