فيلم واقعي

> أحمد مطر

> قرّر كاتب السيناريو أن يصنع فيلمًا واقعيًا حقًا؛ وقرر الناقد السينمائي أن ينقد السيناريو نقدًا واقعيًا حقًا .. جلس الكاتب، وجلس الناقد.
الكاتب: (منظر خارجي - نهار: الموظف يحمل أكياس فاكهة، واقف يقرع باب بيته).
الناقد: بداية سيئة؛ في الواقع، ليس هناك موظف يعود إلى بيته نهارًا، لا بد له أن يدوخ الدوخات السبع بين طوابير الجمعيات ومواقف الباصات، فإذا هبط المساء وعاد إلى بيته - إذا عاد في هذا الزمن المكتظ بالمؤامرات والخونة - فليس إلاّ مجنونًا ذلك الذي يصدّق أنه يحمل أكياس فاكهة !، والواقع انّه مفلس على الدوام، وإذا تصادف أنه أخذ رشوة في ذلك اليوم، فالواقع أن الفاكهة غير موجودة في السوق.
الكاتب: (منظر خارجي - ليل: الموظف يقف ليقرع باب بيته).
الناقد: هذا أحسن .. وإذا أردت رأيي فالأفضل أن تُزوّدهُ بمفتاح، لا داعي لقرع الباب في هذا الوقت، أنت تعرف أن قرع الباب - في هذا الزمن المليء بالمؤامرات والخونة - يرعب أهل الدار، ويجعل قلوبهم في بلاعيمهم، والموظف نفسه لن يكون واقعيًا إذا فعل ذلك بأهله كلّ يوم، نعم.. يمكنك التمسّك بمسألة قرع الباب، على شرط أن تبدل الموظف بشرطي أو مخبر.
الكاتب: (منظر خارجي - ليل: الموظف يضع المفتاح في قفل باب بيته ويدخل ..) لكن يا صديقي الناقد، ما ضرورة هذا المنظر ؟ إنه يستهلك ثلاثين مترًا من الفيلم الخام بلا فائدة، لماذا لا أضع الموظف في البيت منذ البداية ؟.
الناقد: هذا ممكن، لكن الأفضل أن تُبقي على هذا المنظر، فالواقع أن جاره يراقب أوقات خروجه وعودته، وإذا لم يظهر عائدًا، وفي موعد عودته نفسه كل يوم، فإنك تفترض أن تقرير الجار سيكون ناقصًا، وهذا في الواقع أمر غير واقعي، بل ربما سيدعو الجار إلى اختلاق معلومات لا أصل لها.
الكاتب: (منظر داخلي - متوسط: الموظف يخطو داخل الممر...)
الناقد: خطأ، خطأ.. ينبغي أن يدخل مباشرة إلى غرفة النوم.
الكاتب: لكنَّ هذا غير واقعي على الإطلاق !.
الناقد: بل واقعي على الإطلاق، أنت غير الواقعي، إنك تفترض دخول الموظف إلى بيت، وهنا وجه الخطأ، الموظف عادةً يدخل إلى وجر كلاب. نعم. هذا هو الواقع، البيت غرفة واحدة تبدأ من الشارع.. دعك من أدونيس، البيت ثابت لكنّه متحوّل، فهو غرفة النوم وهو المطبخ وهو حجرة الجلوس وهو الحوش.
الكاتب: (منظر داخلي - قريب: الموظف يخطو على أجساد أولاده النائمين - تنتقل الكاميرا إلى وجه الزوجة وهي تبدو واقفة وسط البيت (كلوز آب) تبدو الزوجة مبتسمة، وعلى وجهها إمارات الطيبة ... الزوجة: أهلاً.. أهلاً.. مساء الورد.
الناقد: اقطع .. بدأت بداية حسنة لكنك طيَّنتها، في الواقع ليس هناك زوجات طيبات، والزوجات أصلاً لا يبتسمن، خاصّة زوجات الموظفين، ثم ما هذا الحوار الذي مثل قلّته؟ مَن هذه التي تقول لزوجها أهلاً ثم تكرر (الأهلاً) ثم تشفع كل هذا بمساء الورد ؟!، أيّة واقعيّة في هذا ؟ دعها تنهض من بين أولادها نصف مغمضة، مشعثة الشعر، بالعة نصف كلامها ضمن وجبة كاملة من التثاؤب.. ثم اتركها تولول كالمعتاد.. (الزوجة: هذا أنت؟ إييه ماذا عليك؟ الأولاد ناموا بلا عشاء، وأنت آتٍ في هذه الساعة ويداك فارغتا،. مصيبتك بألف ياسنيّة..).
الكاتب: انظر ماذا فعلت.. لو تركتني أزوّده بكيس واحد من الفاكهة على الأقل، لما اضطرَّ إلى مواجهة أناشيد سنيّة.
الناقد: زوّده يا أخي، لكنك لن تكون واقعيًا، ثم أن أناشيد سنيّة لن تنقص حرفًا واحدًا، بل ستزيد، إن كيس الفاكهة ليس حذاءً جديدًا لابنته التي تهرّأ حذاؤها، ولا هو مصروفات الجامعة لابنه الأكبر، ولا أجرة الرحلة المدرسية التي عجز ابنه الأوسط عن دفعها حتى الآن.
الكاتب: يصعب بناء الحبكة المشوّقة بوجود مثل هذه المشاكل التي لا حلَّ لها في الواقع.
الناقد: اجتهدْ.. حاول أن تتخلّص من أولاده قبل مجيئه.
الكاتب: إنهم نائمون أصلاً، ماذا أفعل بهم أكثر من ذلك ؟.
الناقد: دعهم نائمين.. ولكن في مكان آخر في السجن مثلاً، هذا منتهى الواقعيّة، لا يمكن أن يكونوا في هذا العمر ولم ينطقوا حتى الآن بكلمة معكّرة لأمن الدولة !.
الكاتب: وماذا أفعل بسنيّة؟ إنَّ أناشيدها ستكون أشدَّ حماسةً في هذه الحالة.
الناقد: اقتلْها بالسكتة القلبية.. من الواقعي أن تموت الأم الرؤوم مصدومةً باعتقال جميع أبنائها دفعة واحدة.
الكاتب: ماذا يبقى من الفيلم إذن ؟!.
الناقد: عندك الموظف.
الكاتب: ماذا أفعل بالموظف ؟.
الناقد: لا تفعلْ أنت.. دَعْ جاره يفعل، تخلّص من الجميع بضربة واحدة، الزوجة في ذمّة الله، والموظف وأولاده في ذمّة الدولة، ونصيحتي أن تقف عند هذا الحد، فإذا فكّرتَ أن تذهب أبعد من هذا فستلحق بهم.
الكاتب: كأنّك تقول لي ضع كلمة (النهاية) في بداية الفيلم، أيّ فيلم هذا؟ لا يا أخي، دعنا نواصل حبكتنا كما كنا، وبعيدًا عن السياسة.
الناقد: كما تشاء، واصل.
الكاتب: (كلوز - وجه الزوجة وهي غاضبة)، (الزوجة: هذا أنت؟ إييه ماذا عليك؟ الأولاد ناموا جائعين، وأنت آتٍ كالبغل في مثل هذه الساعة ويداك فارغتان كقلب أمِّ موسى، مصيبتك سوداء يا سنيّة)، (قطع - الكاميرا على وجه الزوج - يبدو هادئًا).
(الموظف: ماذا أفعل يا عزيزتي؟ هذا قدرنا، الصبر طيّب، نامي يا عزيزتي، الصباح رباح).
الناقد: هراء.. هذا ليس موظفًا. هذا نبي ! بشرفك هل بإمكانك أن تتحلّى بمثل هذه الرقّة حين تختتم يومك الشاق بوجه سنيّة؟ انقل الكاميرا إلى وجه الموظف . كلوز رجاءً، حتى أريك كيف تكون الواقعيّة... (الموظف حانقًا يكاد وجهه يتفجّر بالدّم: عُدنا يا سنيّة يا بنت ال..؟ أكلّ ليلة تفتحين لي باب جهنم؟ ألا يكفيني يوم كامل من العذاب؟ تعبت يا بنت السعالي. تعبت. اذهبي إلى الجحيم (يصفعها) اذهبي.. أنتِ طالق طالق طالق. طالق بالألف. طالق بالمليون ..هه).
(الزوجة تتسع عيناها كمصائب الوطن العربي، أو كذمّة الحكومات، وتصرخ: وآآآآي.. وآآآآي).
(الكاميرا تنتقل إلى الأولاد، يستيقظون مذعورين على صوت أمهم الحنون، يصرخ الأولاد. يزداد صراخ الموظف، قرع على الباب ولغط وراءه. تنتقل الكاميرا إلى الباب لكنها لا تلحق، الباب ينهدم تحت ضغط الجيران، وتمتلئ الغرفة بهم، ويتعلّق بعضهم بالمروحة لضيق المكان، ضجة الجيران تعلو، أحد الجيران - ولعلّه الذي يكتب التقارير - يحاول تهدئة الموقف).
(الجار: ماذا حصل؟ ماذا حصل يا أخي؟ ماذا حصل يا أختي ؟).
الموظف: لعنة الله عليها.
الجار: تعوّذ من الشيطان..ما الحكاية ؟
الزوجة: هوووو. طلَّقَني.. بعد كلِّ المرّ الذي تحمّلته منه، طلّقني.
الجار: لا.. أنت عاقل يا أخي. ليس الطلاق أمرًا بسيطًا.
الموظف: أبسط من مقابلتها كلّ يوم، لعنة الله عليها.
الزوجة: اسألوه يا ناس.. ماذا فعلتُ له ؟
الموظف: انقبري.
الجار: لكل مشكلة حل يا جماعة.
الموظف: لا حل.
الزوجة: يا ناس. يابني آدم، هل هي جريمة أن أقول له لا تشتم الرئيس ؟!.
(الجار فاغر الفم والعينين.. يحدّق في وجه الموظف.. إظلام).
الكاتب: وبعد ؟!
الناقد: ليست هناك مشكلة.. بعد إعدام الزوج، سيمكن الزوجة أن تعمل خادمةً لتعيل أولادها قبل إلقاء القبض عليهم في المستقبل، تصرَّفْ يا أخي، دع أحدًا من الأولاد يترك الدراسة ليعمل سمكريّاً، أدخله في النقابة وعلّمه كتابة التقارير، أو دعه يواصل دراسته، لكن اجعل أخته تنخرط في الاتّحاد النسائي. بحبحها يا أخي، كل هذه الأمور واقعية.
الكاتب: واقعية تُوقع المصائب على رأسي.. أيّة رقابة ستجيز هذا السيناريو ؟!.
الناقد: إذا أردت الواقع.. أعترف لك بأنَّ الرقابة لن توافق.
الكاتب: ما العمل إذن ؟.
الناقد: الواقعيّة المأمونة هي ألاّ يعود الموظف، ولا توجد سنيّة وأولادها، ولا يوجد البيت.
الكاتب: هذا أفضل.
يرفع الكاتب يده عن الدفتر.. ويرفع الناقد لسانه عن النقد.
***
في اليوم التالي.. يرفع الكاتب رجليه على الفلقة، ويرفع الناقد رجليه على المروحة .. في هذا الزمن المليء بالمؤامرات والخونة.. كلُ شيء مُراقَب !.
* أدبيات أحمد مطر غير الشعرية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى