ذات عدن .. ذات زمن (7)

> محمد عمر بحاح

>
محمد عمر بحاح
محمد عمر بحاح
الطفل الذي كنته كان يعشق السينما.
يذكر الطفل أن أباه كان يأخذه مساء كل خميس لمشاهدة فيلم من تلك التي تعرضها دور السينما في عدن.. وكان أبي يحب الافلام خاصة المصرية والهندية. وكان يجد فيها متعة وراحة كبيرتين بعد عناء العمل طوال الاسبوع من الصباح الى وقت متأخر في المساء. وكانت دارا السينما الاهلية والشعبية في الشيخ عثمان لا تبعدان كثيرا عن دارنا، فكنا نذهب إليها أنا وإخوتي الصغار مع أبي مشيا على الأقدام.
كنت أنتظر يوم الخميس بفرح وفارغ صبر.. وكان الوالد - رحمه الله - قد حدد الفيلم الذي وقع اختياره عليه من تلك الإعلانات التي تعلق على أعمدة الكهرباء، أو من اللوحة الاعلانية التي يحملها على ظهره أحد المعلنين، ويطوف بها في الشوارع والحارات كنوع من الترويج، والتي تحتوي على افيش ولقطات من الفيلم بالاضافة طبعا الى اسم دار السينما.
بالنسبة لطفل يشاهد السينما لأول مرة، ويرى الاشخاص، والعربات، والمعارك، والأهوال، والوجوه، والانفعالات، الفرح، الحزن، والبكاء، والانتقال من مكان إلى زمان، والعكس، والسنوات التي يقطعها دون أن يغادر مقعده في السينما، وهو يضطرم بشتى الانفعالات وسط الظلام ماعدا الضوء المنبعث من شاشة العرض، فإن ذلك لهو السحر بعينه!.
عرفت عدن أول عرض سينمائي عام 1910م، وفي نفس العام قدم المستر حمود أول عرض مسرحي باللغة العربية لفريق التمثيل بالمدرسة الحكومية.. وكانت عن يوليوس قيصر. قبل ذلك بعامين قدمت إلى عدن فرقة مسرحية أقامت مسرحاً لها في بناية قهواجي وقدمت مسرحيتين هما: (الله حق) و (شيري فرهارد).. لكن تاريخ أول عرض مسرحي شهدته عدن يعود إلى عام 1904 بوصول فرقة مسرحية هندية كانت في طريقها إلى جنوب أفريقيا حيث قدمت عدة عروض أثناء توقفها في المدينة.
في بحثي عن المدينة التي سحرتني من النظرة الأولى عرفت أن الأفلام الصامتة كانت تعرض في كريتر السباقة في كل شيء منذ العام 1918، في دار سينما المستر حمود، في القسم (e) بالقطيع، وكانت توجد أخرى للصور المتحركة في الميدان لصاحبها عبدالعزيز خان، كما كانت توجد دار عرض ثالثة في التواهي.
وفي أواخر الثلاثينيات وبداية الأربعينيات من القرن الماضي افتتحت دور سينما في كل من كريتر والمعلا والتواهي والشيخ عثمان. كما أنشئت داران أخريان في وقت لاحق في كل من خور مكسر والبريقة، أما أحدثها ففي حقات بكريتر، وهي ذات تكييف مركزي، مما جعل منها دار عرض مثالية في أجواء عدن الحارة جدا ! وكان الوالد يأخذنا اليها مرة في الشهر على الأقل.
مثلما كانت المكتبات والكتب والصحف بوابتي الى عالم المعرفة، فقد كانت السينما بوابتي المشرعة الى عالم الدهشة والخيال الممزوج بنوع من السحر الذي ليس له حدود. كانت تحملني الى عوالم هناك في أقصى العالم، حيث أكون واحدا من أبطال وشخوص الفيلم، حيث تتقمصني أرواح اخرى، وأصداء أصوات ساحرة تذكرني بحكايات جدتي التي كانت تحكيها لي حتى اسمع لهاثي من شدة الخوف .
كبرت قليلا في العمر ، وصرت اذهب الى السينما وحدي ، اوبمعية اصدقاء في عمري ، وفي مرحلة لاحقة مع صديقات .. وصارت الافلام الاجنبية هي هدفي ومتعتي ، وكانت سينما ريجال في خور مكسر تتخصص في هذا النوع من الافلام .. وكنت احبذ الذهاب اليها مشيا على الاقدام بعد ان تحول سكني من الشيخ عثمان الى المعلا .
مر زمن …
وجرت تحت النهر مياه كثيرة كما يقال. وغبت عدة سنوات عن عدن على غير ارادتي.. بحثت عن المدينة التي كنت اعرفها ! المدينة التي رافقتني في صباي ، الاولاد الذين درسوا معي ، ولعبنا معا، الاصدقاء الذين كنا نشرب الشاي في مقهى زكو او السكران .. الوجوه التي ألفتها وألفتني، الامكنة التي كنت مسحورا بها .. بدت لي مدينة غريبة او انا فيها الغريب ! كانها اختطفت في لحظة ذهول ..خارج الوعي .. خارج العقل . قلت لصديق نجا من جنون الحروب التي شهدتها المدينة ، وحصدت ما حصدت من ارواح اصدقائي والكثير من الناس :

– خذني الى السينما ، لعلني أنسى كل هذه الاهوال!!
احزنتني نظرته قبل ان ينطق ببنت شفة .. احزنني منظر الشوارع التي مررت بها .. وجوه الناس الذاهلة .. بحثت عن دور السينما التي شاهدت فيها أجمل الافلام، عن برافين، هريكين، الأهلية والشعبية في الشيخ عثمان، الحرية في المعلا.. وحين أردت الذهاب إلى بلقيس.. شرعت في وجهي بنادق كثيرة ووجوه صفيقة وقالوا لي:
ارجع !!!
لقد صارت حقات كلها منطقة محرمة!!
لن اكتب بعد اليوم عن فيلم شاهدته..
الشوارع تعلوها المزابل.. ولا أحد يذهب الى السينما. باختصار لم تعد موجودة.
بعد قرن من دخول السينما إليها… لا سينما في عدن!!
وللحديث بقية..

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى