> كتب / علي راوح

تعود بي الذاكرة إلى مطلع التسعينات، عندما عادت صحيفة «الأيام» للصدور بعد توقفها منذ فترة ما بعد الاستقلال عام 1967م، وكنت حينها أحد الصحفيين المساهمين في كتابة التحقيقات والتقارير والأخبار الصحفية، وكذا كتابة المقالات الصحفية.
وفي ذات ليلة اتصل بي الأستاذ هشام باشراحيل على تلفوني الأرضي وقال :أريدك عندي غدا في الصباح الباكر ومعك جهاز التسجيل والكاميرا.. قلت له: حاضر، إن شاء الله ستجدني عندك باكراً. وفي الموعد المحدد وصلت إلى مكتبه (رحمه الله) فقال: “يا علي (يرحم الله والديك) - وكانت هذه العبارة دائماً يقولها لي وربما لغيري ممن يتعامل معهم بود واحترام - اذهب سريعاً إلى شركة أحواض السفن لأنه يقولوا إن العمال في الشركة سيبدؤون إضراباً عن العمل من اليوم، وتحقق من الموضوع واكتب تقريرا مفصلا”. فذهبت وكانت تلك هي المرة الأولى التي تعرفت فيها عن أحوال الشركة ومكوناتها ومهامها.
وصلت إلى مقر الشركة في المعلا، فوجدت تجمعًا كبيراً من العاملين، فسألت أولاً عن رئيس النقابة في الشركة وأخذته جانباً لأعرف من خلاله سبب الإضراب، وكنا في تلك الفترة غير متعودين على الإضرابات في مرافق القطاع العام.. أخذت في الحديث والاستفسارات مع النقابي/ علي بن علي وسجلت كل ما قاله وكل ما اتهم به إدارة الشركة من تقصير نحو العاملين. وكانت حجر الزاوية في موضوع الإضراب هو إقدام الإدارة على مد كابل كهربائي إلى الحوض العائم (حوض اليمن).. وقيل لي إن هذا الكابل يشكل خطورة على العاملين في الحوض.
المهم دونت كل ما قاله علي بن علي وما أضافه زملاؤه في اللجنة النقابية وبعض العاملين، ثم صعدت إلى مبنى الإدارة وهناك استقبلني كل من المهندس محمد هادي سالم، المدير العام، ونائبه المهندس عبدالناصر باحبيب وآخرون من أعضاء الإدارة.. فطلبت منهم توضيحا لما قاله أعضاء النقابة وعدد من العاملين، فكلف المدير العام نائبه عبدالناصر للجلوس معي وتوضيح الأمور، والذي بدوره - أي عبدالناصر باحبيب نائب المدير - أجاب عن أسئلتي كافة.. بعد ذلك توجهت إلى مقر نقابة النقل والمواصلات، وأخذت معهم في الحديث وعن وجهة نظرهم، وكان رئيس نقابة النقل يومها هو الأخ العلواني.
غادرت بعد ذلك إلى منزلي وفرغت أحاديث الجميع من جهاز التسجيل، ورتبت المادة، وذهبت إلى معمل التصوير وأخرجت عدداً من الصور، وتوجهت - عصراً - إلى منتدى «الأيام» وسلمت المادة إلى الأستاذ هشام باشراحيل (رحمه الله وطيب ثراه)، فشكرني وأشاد بجهدي وخاصة عامل السرعة في تجهيز المادة.
وفي المساء اتصل بي الأستاذ هشام وأخبرني أن عددا من الأشخاص في نقابة الشركة اتصلوا به وقالوا له بأن المندوب الصحفي استضافته الإدارة وأكرمته بالغداء والقات، وإنه منحاز إلى جانبهم وسيكتب لصالحهم.. أصابني هذا البلاغ الكيدي بالصدمة والحزن، إذ أنني تغديت في بيتي واشتريت قاتي من الدرجة الثالثة ومن مصروفي. ويبدو أن الأستاذ هشام لم يقرأ المادة بعد، فقلت له: يا أستاذ، المادة بين يديك اقرأها فإن كنتُ منحازاً لطرف دون آخر فألغها، وأنا متقبل لأي عقوبة تفرضها عليّ.. فقال: وهو كذلك. وبعد نحو الساعتين من الزمن اتصل بي الأستاذ هشام وقال: يا علي، أنا آسف، فهذا البلاغ كيدي وغير مسؤول، والمادة ستنشر، وتم نشرها. وبعد مدة من الزمن التقيت بالصدفة بعضو نقابة الشركة علي بن علي في بيت من بيوت الله، سلمت عليه، وظننته راضيا عما كتبته، لكنه قال لي: الأيام دوارة، وما حصل بنا سيعود عليكم، (لا يقصد بـ«الأيام» الصحيفة، بل يقصد الزمن).
بعد ذلك أحببت أن أعود إلى الشركة وأتعرف على طبيعة عملها ومكوناتها الفنية، فأنزلوني في قارب وصعدنا إلى الحوض العائم ودونت مع العاملين مهمة وعمل هذا الحوض، ثم عدت إلى المزلق وإلى الورشة، فذهبت إلى حوض الصداقة وكونت فكرة كاملة عن مهام الشركة وعدد عمالها بين مهندس وإداري، ووجدت أن ورشة الشركة مزودة بعدد من الأقسام الفنية وبمعدات لا توجد عند غيرها من المؤسسات والمرافق الفنية، وأن الحوض العائم رغم تجاوزه لعمره الافتراضي إلا أنه يستقبل البواخر ويؤدي واجبه بفضل جهود العاملين الذين يقومون بصيانته دائماً ويجعلونه في جاهزية تامة.
كيف ولماذا تأسست الشركة؟
منذ العام 1920م عرفت عدن خدمات إصلاح السفن، فكانت شركات: (البس، ستالكو، لوك تامس، كوري براذرز) تقوم بتقديم خدماتها بشكل أساسي للقوات البريطانية والقوات الفرنسية التي تجوب مياه وموانئ البحر الأحمر وبحر العرب.
خدمات إصلاح السفن
خدمات إصلاح السفن

وبعد الاستقلال عام 1967م تم إنشاء شركة أحواض السفن الوطنية من مجموع هذه الشركات المؤممة، وظلت الشركة - منذ قيامها - تمارس مهمة صيانة وإصلاح السفن بمختلف أحجامها وأنواعها. وبعد فتح قناة السويس ولمواجهة الطلب المتزايد فقد زودت الشركة بحوض عائم عام 1976م بطاقة رفع (4500) طن، كوسيلة من وسائل العمل الحديثة، إلى جانب إنشاء مزلق بطاقة (600) طن.
وفي عام 1986م زودت بحوض عائم بطاقة (1500) طن، كما كانت الشركة تمتلك ورشة فنية مكونة من الأقسام الفنية الآتية: (الخراطة، البرادة، الميكانيكا، الصب، الصفائح، اللحام، الكهرباء، النجارة، التثليج، وقسم مكائن الديزل).
ومن المعروف أن عمل هذه الشركة - بالنسبة للسفن الأجنبية - يتم بالعملة الأجنبية (العملة الصعبة)، وكانت ترفد خزينة الدولة بالملايين من العملة. ولكن إخطبوط الفساد لا يملك إلا رؤية واحدة، وهي تدمير كل شيء.
ومن المستغرب أنهم عندما أنشأوا الميناء الحر (المنطقة الحرة) عمدوا إلى تدمير شركة أحواض السفن بدلاً من تحديثها لتقوم بتقديم خدماتها للسفن القادمة إلى ميناء المنطقة الحرة، والتي ستجعل الدولة تجني مئات الملايين من العملة الصعبة، فأين النظرة الاقتصادية لهؤلاء؟!.
*العد التنازلي لوأد الشركة
طبعاً بعد العام 1990م لم ترَ الشركة أي تحديث إلا بحدود نادرة جداً، وكأن القرار قد اتخذ لوأدها وقبرها دون كفن ودون عزاء، فالحوض العائم (حوض اليمن) هو حجر الزاوية في عمل الشركة، وهذا الحوض تم إدخاله للعمل عام 1976م، وقدر عمره الافتراضي بعشر سنوات، ويتسع لباخرتين في وقت واحد، وبفضل جهود العمال الفنيين في الشركة الذين تربطهم بهذا الحوض رابطة العيش والملح - الذي يعتبر مصدر رزقهم ومصدرا لرفد خزينة الدولة بالعملة الصعبة - ظل هذا الحوض يقاوم ويؤدي واجبه حتى العام 2001م متجاوزاً عمره الافتراضي بـ 20 عاماً، ظل يقاوم الموت ويتشبث بالحياة، فالحياة - كما يقولون - غالية، ولكنه في النهاية ترسخ وأعلن تقاعده عند العمل وغرق في غياهب اليم، تزامناً مع بدء تدشين العمل في ميناء المنطقة الحرة.. وسبحان الله! فهذه سنة الله، فهناك من يموت وهناك من يولد في يوم واحد!!.
فأين هي نظرة خبرائنا الاقتصاديين الذين كان يجب عليهم تحديث شركة أحواض السفن ورفدها بحوض عائم جديد يواكب نشاط المنطقة الحرة في إستقبال السفن العملاقة (حاملة الحاويات)، والتي - بدون شك - تتطلب الصيانة و(المفاقدة) بعد إفراغ حمولاتها في ميناء المنطقة الحرة، فهذه والله واحدة من غرائب الدنيا السبع.
*خيبة أمل
وبعد سقوط الحوض العائم شُل العمل في الشركة، واقتصر دورها على صيانة القوارب الصغيرة في حوض الصداقة، والقيام ببعض الأعمال الفنية في المزلق وفي الورشة، وظل مدير عام الشركة المهندس محمد هادي يقدم النداءات والاستغاثات لوزارة النقل والحكومة، ويوضح لهم أهمية دور الشركة، ووصل به الأمر إلى طلب قرض مالي يحدث به الشركة، وتعهد لهم بإعادة القرض بعد أن يبدأ عمل الشركة، ولكن (قد تسمع إن ناديت حيًا، ولكن لا حياة في من تنادي).
تعالوا إلى ما هو أغرب!
في أغسطس 1998م قام وزير النقل حينها عبدالملك السياني بزيارة لمقر الشركة، وكنت مرافقاً صحفياً لزيارته مع عدد من زملاء المهنة، فوجدتها فرصة وطلبت منه إجراء حديث صحفي عن نشاط الوزارة وتوجهاتها فيما يتعلق بتطوير ميناء عدن وشركة أحواض السفن والشركات الملاحية، وحين سألته عن مسألة تحديث شركة أحواض السفن، أجاب: “كلنا يعلم أن العمل في أحواض السفن مسألة تحتاج إلى تكاليف كبيرة للتطوير، وليس بإمكان الدولة تنفيذ أي تطوير للشركة، ولكن لدينا حالياً عدة عروض لشركات كبرى للدخول في المساهمة لتطوير الشركة، والمعروض حالياً هو إعطاء هذه الشركات نسبة كبيرة في المساهمة تصل إلى (70 %)، وبإمكان القطاع الخاص أن يمارس حق الإدارة، فالعمل جار للحصول على هذا الاتفاق مع الشركة التي ستكون مؤهلة لذلك”!! (انتهى حديث الوزير).
هذا الحديث - وهو النظرة لدى الوزير - أصابني بالإحباط وخيبة الأمل، وأيقنت أنهم قد اتخذوا القرار في دفن هذه الشركة بدون كفن ودون عزاء. وبعدها لم نسمع إلا بتردي أوضاع الشركة وتشريد عمالها، وضاع تاريخها المجيد في خضم هذا الفساد، واليوم مبنى الشركة وورشتها سكناً للغربان والهوام بأنواعها.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.. فهل من ينشر الميت من قبره ويعيد له الحياة؟!.