الجنوب من السلم إلى المقاومة.. 19 فصيلا ماذا حققت وإلى أين ستصل بالقضية؟.. الانتقالي ومجلس قيادة الثورة تجارب وتحديات لصنع الحامل السياسي

> تحليل / وهيب الحاجب

> يوم النكبة
لم يكنْ يومُ 7 يوليو من العام 1994م نهايةَ الدولةِ الجنوبية بقدرِ ما كان نقطةً فارقة في تأريخ الجنوب الذي انكسرَ في يوليو نتيجةَ تراكماتٍ وأخطاء ومؤامرات عصفتْ بالجنوبيين منذُ الاستقلال الأول في العام 1967م حتى ذلك اليوم المشؤوم ثم ما تلاه من أحداثٍ ومتغيرات. ولم يكنْ السابعُ من يوليو الإ واحدة من أخطرِ المصائب والمخططات التدميرية الممنهجة التي تستهدف اجتثاث الهوية التاريخية والسياسية للجنوب.
يومُ الاجتياح الغاشم كان تحصيلَ حاصل لتراكمات عدائية ومطامعَ استعماريةٍ من الشريك بالوحدة وأهداف أخرى لقوى إقليمية رأتْ في اندلاع الحرب بين شريكي الوحدة فرصةً لتصفية النظام الاشتراكي من المنطقة، وبالتالي أفضت تلك التراكمات والمخططات مجتمعةً إلى السيطرةِ العسكرية على الأرض، لكنَّ الوضعَ في الجنوب لم يُحسمْ لصالح المنتصر عسكرياً كما كان يتوهمُ نظام علي عبدالله صالح الذي عَمِد إلى طمس وإقصاء كل مَنْ وما هو جنوبي سعياً إلى مسح دولة الجنوب من على الخارطة وإلحاقها باليمن تحت مبررات “اليمننة” وإعادة تحقيق الوحدة بمسميات تاريخية زائفة.
الرفضُ الشعبيّ لواقع ما بعد 7 يوليو ظهرَ خلال الأسابيع الأولى التي تلت اجتياحَ الجنوب ولم يكن الوضعُ حينها يسمحُ للتعبيرِ عن رفض ذلك الواقع (الاحتلال) بيد أن تمادي النظام اليمني في الظلم والقهر والاستبداد عجّل بظهور أول كيان جنوبي رافض للاحتلال وهو الجبهة الوطنية للمعارضة الجنوبية (موج) التي تأسست في نوفمبر 1994م برئاسة عبدالرحمن الجفري في الخارج، وتركّزت مهامُها على معارضة نظام الجمهورية العربية اليمنية، وترتيب أوضاع اللاجئين والنازحين الجنوبيين في الخارج جرّاء عدوان 94م، لتشكّلَ (موج) أولى لبنات العمل السياسي الجنوبي الرافض للاحتلال، ولعلها كانت الدافع لتبنّي وإحياء كثيرٍ من خيارات العمل الجنوبي على صعيد العودة لمواجهة العدو.. فما أن طوى عام النكبة 94م أيامه الأخيرة حتى ظهرت حركة تقرير المصير (حتم) في بداية 1995م، التي يبدو أنها عملت برعاية من الرئيس علي سالم البيض، بيد أن (حتم) اتسم عملها بالمقاومة المسلحة والعمل الفدائي الذي يشبه إلى حدٍ ما العملياتِ الفدائيةَ التي نفذّها الثوار ضد ثكنات الاحتلال البريطاني إبان ثورة أكتوبر؛ إذ استهدفت (حتمُ) عددا من مواقع الجيش اليمني ونفذت اغتيالاتٍ لعسكريين شماليين في ردفان والضالع، ونشطت في هاتين المنطقتين نشاطاً ملحوظا وبتدبيرٍ من قيادات وخبرات عسكرية لعلّ أبرزها الثائر عيدروس قاسم الزبيدي.
*فصائل ومكونات
النظامُ اليمني برئاسة علي عبدالله صالح وطابورٌ طويل من النافذين العسكريين والمدنيين وشيوخ القبائل تمادوا إلى حد بعيد في إقصاء كوادرِ الجنوب من المؤسسة العسكرية والوظائف المدنية والدبلوماسية، وحولوا مؤسساتِ الجنوب إلى إقطاعيات وأملاك خاصة... ما سارع من وتيرة الرفض الجنوبي والدفع به نحو العمل بشكل مدني وفي أُطرٍ معيّنة ربما تغير من ممارسات المنتصرين في الحرب، ففي أغسطس 1999م تشكّلت (اللجان الشعبية الجنوبية) من النخب السياسية والأكاديمية والحقوقية والإعلامية، وكان هدف هذه اللجان هو حماية مصالح وحقوق أبناء الجنوب والحفاظ على مؤسسات الدولة وأراضي وثروات الجنوب، لكنها - أي اللجان - قوبلت بحملة شرسة من النظام اليمني وآلته العسكرية التي كانت لاتزال منتشيةً بالنصر، فطال أعضاء اللجان اعتقالاتٌ ومطاردات ومضايقات حتى تم إجهاضها مبكراً، ووصفها آنذاك رئيس مجلس النواب الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر بأنها “فقاسات اشتراكية”، وهو ربما استشعار مبكر من النظام اليمني بمارد جنوبي يعود للواجهة مجددا.
وفي يوليو من العام 2004م تأسس التجمع الديمقراطي الجنوبي (تاج) في العاصمة البريطانية لندن برئاسة د.عبدالله أحمد الحالمي، وأُسست للحزب لاحقا فروع في معظم دول أوروبا وأمريكا، ويُعد (تاج) أول مكوّن سياسي جنوبي يطرح مشروع تحرير “الجنوب العربي” ويحدد هويته السياسية بوضوح، وبهذه الهوية التي تعرضت للتدمير الممنهج منذ 67م، واستند (تاج) في نشاطه لتحقيق أهدافه على برنامج سياسي ولائحة نظام داخلي.
في 13 يناير 2006م بدأت تحركات جنوبية واسعة كانت هي القاصمة الحقيقية لظهر النظام اليمني المنتشي بسكرات النصر، حيث بدأت ملتقيات التصالح والتسامح تُعقد تباعا في عدد من مناطقِ الجنوب بهدف تحقيق مصالحة وطنية جنوبية جنوبية شاملة للتخلص من تأثير الصراعات السياسية التي ورّث جراحها النظام السياسي بالجنوب وتأسيس تضامن وطني بين أبناء الجنوب، ليكون أرضيةً صلبة تنطلق منها الثورة الجنوبية الساعية إلى الاستقلال من النظام اليمني المتخلف واستعادة الدولة المغتصبة، وقوبلت تلك الملتقيات بتأييد ومباركة ودعم كافة أطراف الصراعات السياسي السابقة، وحققت التفافاً شعبياً من كافة مكونات الجنوب السكانية وتركيبته الاجتماعية؛ فأُسست للتصالح والتسامح ملتقيات دائمة في كل محافظات الجنوب وأصبح يوم 13 يناير مناسبةً وطنية يجري الاحتفال بها سنوياً في كافة المدن.
في مارس 2007م أُعلن رسميا في مهرجان بمدينة الضالع عن تشكيل جمعية المتقاعدين العسكريين، بعد تحضيرات شهدها النصف الثاني من العام 2006م للملمة جهود المسرحين قسرا والمقصيين من العسكريين والأمنيين والمدنيين والدبلوماسيين ومناضلي ثورة أكتوبر، وغيرها من القطاعات الجنوبية التي تعرّض كوادرُها للإقصاء والتهميش والإذلال، لتبشّرَ هذه الخطوة بمرحلة جديدة وخطوة متقدمة وصلت إليها الثورة الجنوبية، وهو ما تم فعلا يوم السابع من يوليو 2007م في ساحة العروض بخورمكسر، التي شهدت يومها أول فعالية جماهيرية جنوبية ظهرت إلى العلن ترفع علم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وتطالب بفك الارتباط عن اليمن، وكانت هنا انطلاقة الحراك السلمي الجنوبي الذي فرض على النُخب الجنوبية والقيادات أن تبلورَ تلك الإرادة الشعبية والمطالب المشروعة في برامجَ سياسيةٍ وكيانات تتبنى هذا المشروع، استمر النضال السلمي بهذا المنحى، وفي أكتوبر 2007م تم تشكيل “مجالس تنسيق الفعاليات السياسية” لتشرف على تحديد الفعاليات والتخطيط والترتيب لها من حيث الزمان والمكان والتأمين.

في أكتوبر 2008م تم الإعلان عن تشكيل “المجلس الوطني الأعلى لتحرير واستقلال الجنوب واستعادة دولته” برئاسة حسن أحمد باعوم، وأُعلن المجلس الوطني خلال مؤتمر عُقد في منطقة العسكرية بيافع وأقر في المؤتمر ذاته البرنامج السياسي واللائحة الداخلية واختيار الجمعية الوطنية للمجلس.
وفي العام ذاته والشهر نفسه أعلن العميد ناصر علي النوبة تأسيس (الهيئة الوطنية لاستقلال الجنوب)، وهو مكوِّن له فروع في المحافظات وبرنامج سياسي يلتزم بالنضال من أجل استقلال الجنوب. وفي ذات العام والشهر أيضا شكل د. صالح يحيى سعيد (الهيئة الوطنية للنضال السلمي) في عدن، وتم إشهار هذا المكون من قبل اللجنة التحضيرية التي أصبحت لاحقا هي الهيئة القيادية برئاسة صالح يحيى.
في مارس 2009م تم إشهار مكون حركة النضال السلمي الجنوبي (نجاح) برئاسة صلاح قايد الشنفرة خلال مهرجان جماهيري حاشد بالضالع.
في التاسع من مايو 2009م تأسس (مجلس قيادة الثورة السلمية لتحرير الجنوب) خلال مؤتمر عُقد في زنجبار، ومجلس قيادة الثورة هو محاولة لدمج المكونات الأربعة (المجلس الوطني، الهيئة الوطنية للنضال السلمي، حركة النضال السلمي، الهيئة الوطنية لتحرير الجنوب) بعد أن توافقت المكونات على الدمج وتشكيل قوام قيادة مجلس الثورة من رؤساء المكونات الأربعة، مضافاً إليهم الشيخ طارق الفضلي كمستقل وبرئاسة حسن باعوم، وتم التوافق في مؤتمر زنجبار على أن يكون علي سالم البيض رئيسا للجنوب، وكان هذا التوافق الأخير على الرئيس البيض أحد أهم المآخذ والانتقادات التي وجهت لاحقا لمجلس قيادة الثورة ومؤتمر زنجبار.
في 18 يناير 2010م تم تغيير تسمية (مجلس قيادة الثورة) إلى (المجلس الأعلى للحراك السلمي الجنوبي لتحرير واستقلال الجنوب) بناءً على توصية وملاحظات تقدم بها قانونيون وسياسيون مختصون ومراعاة لظروف سياسية معينة عاشتها المنطقة.
استمر النضال السلمي بالجنوب في أوجه وتوالت كثيرٌ من المكونات الجنوبية تباعا، وبرز كثير منها بشكل اتحادات ونقابات عمالية كاتحاد شباب الجنوب ونساء الجنوب والحركات الشبابية والطلابية ونقابات المعلمين والأطباء والمهندسين الجنوبيين، وغيرها من المكونات التي ظهرت مع وبعد ثورة التغيير في الشمال كحركة 16 فبراير ومؤتمر شعب الجنوب اللذين كان لهما دور بارز في التأكيد على حق شعب الجنوب في تقرير مصيره ونيل استقلاله، وبلغ عدد مكونات النضال السلمي حتى هذا المرحلة نحو 19 مكونا وفصيلا، ومع إعادة غزو الجنوب عسكريا في العام 2005م سارعت كل فصائل الحراك ومكونات الثورة الجنوبية بالانضمام إلى جبهات القتال ووجدت في عاصفة الحزم فرصة سانحة لتحرير الجنوب من التواجد العسكري الشمالي وتغيير وضع آخر في الجنوب، وخلال أشهر فقط تمكنت المقاومة الجنوبية بمساندة قوات التحالف العربي من تحرير عدن والمحافظات المجاورة، وأعلن التحالف أن الجنوب مناطق محررة، بيد أن هذا التحرير لم يكن في المنحى الذي يتطلع إليه شعب الجنوب، ولم يكن هو الهدف الذي قامت عليه الثورة السلمية وتكونت لأجله فصائل الحراك، فظل ذلك النصر بالنسبة للإرادة الجنوبية منقوصا وبقي ذلك التحرير حتى اليوم بمثابة استقلال مع وقف التنفيذ.
*حامل سياسي
ما أفرزته الحرب وتحرير الجنوب هو الرغبة الجنوبية الجامحة في إعادة صياغية الثورة والعمل على تهيئة المؤسسات العسكرية والمدنية لأية استحقاقات سياسية، وظل إيجاد الحامل السياسي لقضية الجنوب والمعبّر عن الإرادة الجنوبية هو الهاجس الذي يراودُ كل القيادات الحريصة والمكونات الفاعلة في الثورة السلمية والمقاومة المسلحة التي انبثقت لاحقا من رحم عاصفة الحزم وصارت هي الدرع الحامية لتراب الجنوب، فكانت دعوة القائد عيدروس الزبيدي لإيجاد هذا الحامل صريحةً عقب توليه منصب محافظ العاصمة عدن، وعمل على إنجاز هذا المشروع بدعم لوجستي من أطرف بالتحالف العربي، وبإعلان المجلس الانتقالي الجنوبي في مايو 2017م ارتقت قضية الجنوب سياسيا وصارت الرقم الصعب في المعادلة اليمنية وفي عاصفة الحزم نفسها، ما أربك حسابات كثير من القوى والأحزاب اليمنية المستأثرة بالشرعية اليمنية وعمدت إلى محاربة هذا المشروع الجنوبي والسعي لإقصاء كوادره وإبعادهم من التواجد في السلطة وبعقلية علي عبدالله صالح ذاتها وعينها.
في حقيقة الأمر إن محاولات إيجاد الحامل السياسي لقضية الجنوب لم تكن جديدة ولم يكن المجلس الانتقالي هو أول نتائجها، بل إن اتفاقية 9 مايو 2009م في زنجبار ودمج المكونات الأربعة في مجلس قيادة الثورة شكل النواة الأولى والتجربة السباقة لإيجاد الحامل السياسي، وكان يمكن البناء على هذه التجربة وتطويرها لكي تتمكن من قيادة نضال شعب الجنوب غير أن خلافاتٍ برزت - لم تكن ذات خطورة - داخل المجلس بعد التأسيس مضافا إليها تدخلات أطراف محلية وخارجية بخلق عقبات ومصاعب أمام المجلس، وكذلك آلة القمع العسكري والإرهاب السلطوي حالت دون قيام هذا الحامل الوليد بمهامة المحددة.
كل تلك المكونات بدءا بـ(موج وحتم) وجمعيات المتقاعدين ومرورا بمكونات مجلس قيادة الثورة وانتهاء بالمجلس الانتقالي لم ترفع السلاح في وجه بعضها ولم تتقاتل أو تنزلق إلى هذا المربع كما انزلقت جبهة التحرير والجبهة القومية قبل تحقيق الاستقلال في العام 1967م، ولم يشذ أي مكون أو فصيل منها عن هدف التحرير والاستقلال بل ازدادت جميعها تمسكا بهذا المطلب وباتت اليوم كلها في خندق واحد تناضل من أجل الاستقلال، وإذا كان الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني والمقاومة قد جمعت جبهتي التحرير والقومية وبقية الفصائل التي بلغت آنذاك نحو ثمانية أحزاب ومكونات على اختلافها وبعد احترابها، فإن هدف التحرير والاستقلال هو الجامع اليوم لكل فصائل الحراك السلمي ومقاومته المسلحة، وإن مسألة التنوع والتباين في الرؤى طبيعية جدا، وتحت أي ظرف من الظروف ستلتف كل هذه المكونات والفصائل حول بعضها وتتخندق في جبهة واحدة لمواصلة مسيرة الاستقلال، وإن الرهان على تفتيتها ومحاولات الزج بها في صدام مسلح مع بعضها رهان خاسر، مهما تعددت أساليبه أو تلونت طرقه.
تحليل / وهيب الحاجب

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى