أعجوبة القرن .. تنام النجوم على حنجرته الذهبية أبو بكر سالم بلفقيه.. وطن كامل السيادة 1 - 2 ..!

> محمد العولقي

>
محمد العولقي
محمد العولقي
* مالحة هي الكلمات في فمي..رثائي مرير في مرارة العلقم.. ها هو عاشق الليل يغادر محمولا على أجنحة النهار.. يودع ذلك الكائن الليلي الذي ظل يغرد في قفصه الصدري لأكثر من ستة عقود عالمه في جنازة مهيبة نسجتها خيوط أشعة الشمس.. الليل يرثيه بدموع الغسق.. والغروب تخنقه عبرات الشفق..
* رحل العملاق (أبو بكر سالم بلفقيه) في رابعة النهار.. وهو الذي تدثر برداء الليل في غربة طويلة مؤلمة.. كانت غايتنا.. شريطنا السينمائي الذي جمع أوجاع الفرح وآلام الترح.. سيناريو الوجود الذي جمع إرهاصات التحدي ومخاضات التصدي..
* ستة عقود كاملة و (بلبل) الليل الصادح يملأ أحلامنا رنينا خافتا يحاكي ظلنا الباكي.. ويطير بوداعتنا نحو عالم مهووس بقوس قزح..مشدود بتلك الحبال الصوتية القادمة من وداعة صحراء (التصوف) الديني..
* لم يهتز وتر لغربة ذلك (الكروان) الليلي ألا واهتز معه عرش النهار.. حنجرة (حضرمية) تحلق في الفضاء.. سرعان ما وطئت غصتها سطح قلوب البسطاء.. العاشقين.. المتيمين..سكارى الرقة واللوعة والجوى..
* ترسو سفن معاناتنا على مرفأ حنجرة (أبوبكر سالم).. ننام هناك على أنغامه ودانه (الحضرمي).. و إيقاعات فلسفة تفتش في داخلنا عن وجه غربة.. عن زمردة مخاض سقطت سهوا في رحلة الركض خلف أسراب السنونو..
* لم نكن نعلم أن قلق ذلك (التريمي) المتصوف والمتعبد في دار جده (عبدالرحمن بلفقيه).. مصدر من مصادر الإلهام والسعادة.. لم نستكن في معبده الليلي دون أن نتلمس سبيل ليله الموحش المطرز بنجوم كلماته.. المبللة بندى فجر قادم يلوح في أفق اللحظة..
* ظل (أبوبكر سالم) ملتزما لبيئته الحضرمية.. زاهدا في أضواء مدن الغربة.. ظلت (تريم) تعيش معه ويعيش معها.. ولم يسلبه بريق الغربة لكنته بعد أن أطبقت عليه الشهرة تماما.. لم ينخدع ببريق نجاحه المبهر.. ولم يسأل قومه عن ذلك العيد.. كيف جاء؟ وبأي حال عاد..؟
* السفر قدر (أبوبكر سالم).. جوازه الحضرمي يلف المطارات.. يشعر دائما أنه كائن ولد ليحلق دائما في أجواء المطارات.. ظلت الغربة تزكم أنفه..شغلته وشغلها .. قالها في لحظة ضعف وبعاطفة جياشة تلقتها حنجرته.. فعصفت بكل تراجيديات رحلاته المكوكية.. (تعبت مني المطارات).. قالها في لحظة وثوب نحو هوة ذلك الليل الذي يعشقه (بلفقيه) بكل حرقته ومرارته وتقلبات طقسه ومناخه.. تبدو المسافة الفاصلة بين لحظة الاسترخاء ولحظة الكرى مزيجا عجيبا من همس القوافي عند (أبو بكر سالم).. حتى ليخيل لي أن الليل لم يكن رمزا عند داهية الطرب.. لكنه صنو للقمر.. يبدو التلازم والتناغم واضحا بين (أبوبكر سالم) ومخاضات ليل طويل كموج البحر.. لم ينجل إلا بكتابة الفصل الأخير من حياة (أبوبكر سالم) المضطربة القلقة المطرزة بنجوم الليل ونيازك الفضاء المفتوح ..
* وأن يحول (أبوبكر سالم) هذا الاضطراب إلى لوحة نابضة.. وهذا التشنج الليلي إلى دوحة وارفة يستظل تحتها محبوه في الوطن العربي.. فهو ساحر.. يعاني ليفرج كربة غيره.. يسهر مع الليل ليداوي جراح غيره.. يكبت أناته وآهاته ليزيح هم الليل ومذلة النهار عن غيره.. ولهذا هاتفنا في ليلة لا تسمع فيها لاغية قائلا : أعيش لك أنت بس وحدك ..
* لن تنجلي سحابة المعاناة عن صوته الشجي دون أن تمطر حنجرته خيرا و فيرا مذهبا يروي ظمأ تلك القلوب العطشى الباحثة عن مخرج لمعاناة سرعان ما تلتقطها رادارات حنجرته.. فتنساب في آذاننا برقة ونعومة (شمس الضحية).. حين يمارس التحريض على الشروق لينهي مكابدة ليل ناء بكلكل ..
* ذات صيف كبيس.. قذفت الموجة بصبي (تريمي) خمري البشرة.. لفظته على ساحل (عدن).. انبهر الصبي بأضواء تلك المدينة المبهرة التي تنام بين أحضان الجبال.. وتتكحل بمرود بحرها .. سحره بريقها الفني.. وشدته مسارحها الفنية المتنوعة.. كانت (عدن) للتو قد استقبلت الفنان (فريد الأطرش).. وخص مسرحها الفني بليلة طرب خلبت لب الصبي (التريمي).. طافت عيناه جغرافية (عدن).. هزه الشوق والحنين لموهبته الشعرية الناشئة.. التقط (فنار) التجربة.. وتحت أضواء (البندر) تفجرت حنجرته الذهبية بذلك الموال (يا ورد محلا جمالك).. كان صوته المراهق يملأ سماء إذاعة (عدن) في العام 1956 ، كان صوته يرش على المستمعين عطر الحضارم المرغوب.. قبل عامين كانت الإذاعة تفسح الطريق أمام الشبل اللحجي (فيصل علوي).. وها هي اليوم تستخرج لؤلؤة من محارة (الجنوب)..تقذف بها موجة الأثير إلى محيط فني ينبض بالحركة والبركة ..
* لم يشأ الصبي (التريمي) التوقف لدراسة انطلاقته الفنية في (عدن).. لقد أحدث أثرا كبيرا في نفس الفنان (محمد مرشد ناجي).. وصعد اسمه بسرعة الصاروخ.. ظل حديث المدينة والشغل الشاغل للفنانين.. كيف لصبي لم يحتفل بربيعه الثامن عشر.. أن يقرض الشعر.. ويلحنه.. ويغنيه بكفاءة تدعو إلى الإعجاب والتقدير معا..؟
* لقد أدرك الصبي أن مرحلة التحدي وإثبات الذات قد بدأت.. وكان عليه أن يتزود بوقود المرحلة لينطلق مكوكه الفني لا يلوي على شيء.. ولقد التقط الصبي خيط البداية فأرسى مداميك موهبته الفذة المتفجرة بمختلف ألوان وطبقات الغناء الفني المؤثر .. قدر لذلك الصبي أن يكون صنوا للشاعر الرقيق الحساس (لطفي جعفر أمان).. شكلا معا ثنائيا متناغما ومنسجما.. كانت حنجرة (أبوبكر سالم) شجرة وارفة تستظل تحتها أشعار (لطفي جعفر) العاطفية ذات التراكيب المفعمة بحرارة اللقاء.. وحرقة الوداع والفراق..
* تلازم الاثنان معا.. تآزرا في دغدغة مشاعر العشاق.. أطلق (لطفي جعفر) العنان لعاطفته.. فكان مثل الحاوي يخرج من جرابه عجبا شعريا يذوب ويتشكل تحت حرارة (لما الاقي الحبيب).. وكان (أبوبكر سالم) خير من يحمل تلك العاطفة لتدخل كل بيت في (الجنوب) والجزيرة..
* طافت حنجرة (أبوبكر سالم) حارات (عدن) وأزقتها.. تجاوزت طريق (البريقا) بحثا عن (الحلوة).. مكثت طويلا بين ثنايا الحب العذري العفيف المتمزق بعاطفة (أعيش لك وحدك).. وسافر صوته متلمسا خطوات الحبيب (خطوة.. خطوة)..وكشفت طبقات صوته فحوى استفهامية (لطفي جعفر) موضحا (الحلاوة كلها من فين)..تتغلغل عاطفة (بلفقيه) الصوتية داخل ذواتنا المنكسرة تعيدنا مع الشاعر إلى الأيام الخوالي في (زمان كانت لنا أيام).. ويطوف صوته الكرواني سماوات الانكسار متضامنا مع قلب فارقه الحنين (لك حق بد اللي حصل يا قلب تكره ذي الحياة).. بعدها يعري الحبيب الغادر الخائن المتلاعب بعواطف المحب (ما تستهلش الحب)..ويحلق بنا (بلفقيه) بجناحي (لطفي جعفر).. وهو ينشد (وصفوا لي الحب).. تماشيا مع متلازمة عاطفية جياشة فرضها الإيقاع المعنوي في (من نظرتك يا زين ذقت الهوى مرة) .. تنجلي سحابة الترقب عند التوأم (الفنان والشاعر) في تركيبة عاطفية حسية مباشرة توضح بديهة العاشق الولهان في رائعة (يا حبيبي يا خفيف الروح).. لكن (بلفقيه) يتلاعب بعاطفة الشاعر (لطفي جعفر).. ثم يغوص في أحشائنا في لحظة ترقب تنتهي بضياع في الأفق .. معللة فحوى الغدر في (يا دوب مرت علي أربع وعشرين ساعة).. هذه اللازمة الرائعة الخالدة التي طارت بكل مشاعرنا وأحاسيسنا وعواطفنا إلى مختلف قارات العالم.. هناك استقبلوا الصوت اللؤلؤي المذهب بتقدير خاص رشحه للظفر بجائزة الصوت الأكثر عمقا وتنوعا في الطبقات والمقامات الطربية..
لم تتعب حنجرة (أبوبكر سالم)، وهي ترتقي عاليا.. تهوى السماوات المرتفعة.. وترفض التحليق في البقاع المنخفضة .. لكن ذلك الحنين الجارف للؤلؤة الجزيرة والخليج (عدن) حرك وجدانيات الفنان.. فارتمى في أحضان اللوعة و البين والجوى .. خاطبه (لطفي جعفر) في (كل شيء معقول إلا فراقك يا عدن) .. عل ذلك الطائر الليلي يكف عن التحليق.. ثم هاتفه محطما وثن الغربة الرابض في صدر (بلفقيه) في مأثرة (يا طائرة طيري على بندر عدن).. كان (أبوبكر سالم) يبكي وهو يشعرنا بنزيف الغربة وأوجاعها وبراز مخاضها.. كان يغرس في نفوسنا ماردا للغربة دون أن تهبط طائرته في أرض الأحلام.. ظل وفيا لنا ولحبنا.. آثر أن يتحمل المشاق نيابة عنا.. وفضل أن يستحم بندى النجوم لأجل راحتنا.. أما هو فسهران ليله طويل بمدى تجربة انتهت وتلاشت في الغربة..
* كانت رحلة العبقري (أبوبكر سالم) مضنية ومضيئة..مغلفة بأشباح الهروب من الذات نحو عالم فني مهووس بالألوان.. من (القاهرة) استلهم الكثير من أهرامات مصر الفنية.. وعندما حلق في سماء (بيروت) ملأ الكون ترتيلا بأسطوانة (يا دوب مرت علي أربع وعشرين ساعة).. ضجت (بيروت) عاصمة الفن في السبعينيات من هول ذلك الصوت الشجي المليء ببحة الصحراء وعنفوان الشعر الفلسفي المقفى.. و طار اسم (بلفقيه) في أجواء الطرب العربي.. بدليل أن الإذاعات العربية خاضت منافسات شرسة لجذب هذا الفنان الشاب المتمرد على كلاسيكيات الأغنية التقليدية.. ورغم ذلك النجاح الساحق الماحق إلا أن الفنان (بلفقيه) كان يشعر أنه بلا توأم فكري بعد فراق (لطفي جعفر) المرير..
* مرة تراءى له ذلك الكنز (الحضرمي).. زاره في المنام جده المتصوف (عبدالرحمن بلفقيه).. كان محمولا على (محفة) تريمية طرزها دعاة الفكر والعلم.. ربت الجد على رأس الشاب (أبوبكر).. ثم همس في أذنه بحنان : يا قرة عيني جدك.. مكانك ليس هنا.. هناك على ضفاف البحر الأحمر ينتظرك نصفك الآخر.. إنه هناك يتقلب على جمر النار.. الحق به يا صغيري قبل فوات الأوان..
* لملم (أبوبكر سالم) حاجياته.. ميمنا وجهه شطر المطار.. السفر إلى دنياه الجديدة تزكم أنفه.. والشوق إلى ربيعه الآخر يملأ كيانه.. وهناك في (جدة) استقبلته ضفائر العروس بكل زينتها.. شعر الشاب أن روحه ردت إلى جسده.. وأن نبضات قلبه عادت للانتظام.. وطلع (البدر) على (جدة) وراق ضوؤه الفضي لمتذوقي الطرب الأصيل.. لقد وصل (أبو بكر سالم) في الوقت المناسب ليحتل مكانة فنية مرموقة لم ينازعه عليها فنان آخر.. كانت (جدة) في ذلك الوقت تستئنس بخرير مائها الرقراق الفنان (طلال مداح).. وكانت سحابة (محمد عبده) في طور التشكل.. وعندما صدحت الحنجرة الذهبية للفنان القادم من جنوب الجزيرة بعبق وعطر (الحضارم) في رائعة (أقول له ايه) انطلقت ثورة التغيير من هناك.. بدأ وكأن (الكوكب الساري) في طريقه لأن يعلن أن (أبوبكر سالم) مجرة خاصة خارج المنافسة تماما.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى