رثاء الأبناء في الشعر العربي

> حيدر ناصر

> يعدّ الرثاء من أصدق أغراض الشعر في التعبير عن مشاعر الإنسان وأبعدها عن النفاق والرياء ولا سيما إذا كان الميت قريباً أو عزيزاً، والباعث على الرثاء هو الحاجة النفسية المتمثلة في شعور الإنسان بالغربة والوحدة حينما يفصم الموت عرى ألفته مع من أحب لذلك لم يكن الحزن في الرثاء على درجة واحدة فعلى شدّة لجزع يبنى الرثاء ولهذا وضعوا ألفاظاً يدل كل واحد منها على نوع من الرثاء ومنها: الندب والتأبين والعزاء، فالندب عادة ما يطلق على رثاء الأهل والأقارب والأحبة ويأتي بعد ذلك التأبين وهو أشبه بالمجاملات الاجتماعية ومنه تأبين الملوك والزعماء والأعيان أما العزاء فهو موقف تأمل خاص بالشخص الراثي في مسائل الموت والمصير، لذلك يمكن أن يعدّ تطوراً نوعياً للرثاء بعد أن يمر بمراحل تطورية تتمثل بداياتها بتلك النوائح التي تقام للميت في مراسيم حزينة.
ثم أصبح الرثاء يلبي حاجات نفسية بوصفه تخليداً للميت وقد ذكر الجاحظ: (أنه قيل لإعرابي: ما بال المراثي أجود أشعاركم؟ قال: لأنا نقول وأكبادنا تحترق) لذلك فإن من روائع الشعر العربي تلك المراثي التي قيلت في رثاء الأبناء لأنها أفاضت عما اختلج في نفوس الشعراء المفجوعين من حسرة وألم جراء فقدهم فلذات أكبادهم فجاءت تلك المراثي صادقة المشاعر متوجهة بالأحاسيس.
رثاء أبي ذؤيب أبناءه الخمسة
وقد عدّ ابن قتيبة الدينوري عينية أبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه الخمسة الذين أصيبوا بالطاعون في عام واحد على أنها (من أجود شعرهن بل من أجود شعر العرب) يبدأ أبو ذؤيب مرثيته الطويلة التي صاغها في ثمانية وستين بيتاً بهذا المطلع:
أمِنَ المنونِ وريبها تتوجَّعُ
والدهر ليس بمعتبٍ من يجزعُ
ثم يصوغ القسم الأول من قصيدته في الشكوى من الزمان الذي فجعه بأولاده الخمسة ثم يقول:
فلئن بهم فجعَ الزمانُ وريبه
إني بأهل مودتي لمفجّعُ
سبقوا هوىً واعنقوا لهواهمُ
فتخرّموا ولكل جنبٍ مصرعُ
أمْ ما لجنبك لا يلائم مضجعاً
إلا أقضّ عليك ذاك المضجعُ
فأجبتها إن ما لجسمي أنه
أودى بنيَّ من البلادِ فودّعوا
ويرسم الهُذلي في هذه المرثية صورة رائعة فيصور الموت كالصياد وهو يقنص فرائسه وهنّ على موارد الماء فيقول:
ونميمة من قا نصٍ متلببٍّ
في كفه جشءٌ أجشُ وأقطعُ
فنكرنه ونفرن وأمترست به
سطعاء هادية وهادٍ جرشعُ
فرمى فأنفذ من نجودٍ عائطٍ
سهماً فخرَّ وريشه متصمعُ
وظل الصياد يرمي حتى أصابهن جميعاً:
فأبدّهن حتوفهنّ فهارب
بدمائه أو بارك متجعجعُ
يعثرن في حد الظبات كأنما
كسيت برود بني يزيد الأذرعُ
فكأنه قسم عليهم المنايا فهارب ببقية نفس لا يستطيع الحفاظ عليها و بارك ساقط قد استسلم للمنية إلا أنهنّ وهن يتخبطنّ في دمائهنّ كنّ كأنما كسيت أذرعهنّ بروداً حمراء وفضلاً عن هذه القصيدة فقد رثاهم بعدة قصائد أخرى منها هذه القطعة وفيها يعزّي امرأته ويواسيها في فقد أولادها فالموت سلطان يفرض حكمه على الجميع والزمان كفيل بتعقب أبنائه يقول فيها:
ياميَّ إن تفقدي قوماً وليدهمُ
أو تخلسيهم فإن الدهر خلاّسُ
يا ميَّ إن سباع الأرضِ هالكة
والأدمُ والعفرُ والأرامُ والناسُ
والخنسُ لن يعجزَ الأيام ذو حيدٍ
بمشمخرٍ به الظبيانُ والآسُ
رثاء جرير لابنه
أما جرير بن عطية الخطفي فإن فداحة الخطب وعظم الفاجعة بفقد ابنه سواده تصل إلى حد الإسراع في عقله وحاله عندما يفارقه سواده وهو في أشد الحاجة إليه بعد كف الدهر بصره فصار كعظم الرمة البالي يقول في رثائه لابنه:
قالوا نصيبك من أجر فقلت لهم
من للعرين إذا فارقتُ أشبالي؟
لكن سواده يجلو مقلتيْ لحمٍ
بازٍ يصرصرُ فوق المرقب العالي
قد كنتُ أعرفهُ مني إذا علقت
رهن الجياد ومدّ الغاية الغالي
إلا تكن لك بالديرين باكية
فربَّ باكية بالرمل موالِ
كأمِّ بوٍّ عجول عند معهده
حنّت إلى جلد منه وأوصالِ
رثاء الفرزدق أبناءه
ورغم أن أولاد الفرزدق غالب بن صعصعة كانوا له عاقين ينهرونه ويجذبونه ويمتهنونه وقد ذكر ذلك في شعره فعاتبهم وهجا بعضهم إلا أن كل ذلك لم يمنعه من البكاء عليهم حين فقدهم فرثاهم بلهفة الملتاع المتحرّق يقول الفرزدق ليسلّي زوجته النوار بفقد أبنائها:
ولو كان البكاء يردّ شيئاً
على الباكي بكيتُ على صقوري
إذا حنّت نوار تهيجُ مني
حرارة مثل ملتهب السعيرِ
حنين الوالهين إذا ذكرنا
فؤادينا اللذين مع القبورِ
غذا بكيا حوارَهما استحثت
جناجن جلّةِ الأجواف خورِ
بكين لشجوهنّ فهجن بركاً
على جزعٍ لفاقدةٍ ذكورِ
رثاء ابن الرومي
أبناءه الثلاثة
ومن بين الشعراء المفجوعين الذين رثوا أبناءهم يبرز إلينا شاعر مجيد هو ابن الرومي علي بن العباس بن جريج الذي فجع بأولاده الثلاثة وهم صغار فرثاهم بقصائد عديدة ولعل أروعها داليته التي رثى بها و لده الأوسط (محمد) وهي تعد من أرق ما أفاضت به عواطف والد على ولد عزيز وقد استهلها مخاطباً عينيه بقوله:
بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي
فجودا فقد أودى نظيركما عندي
توخّى حمام الموت أوسط صبيتي
فلله كيف أختار واسطة العقدِ
طواه الردى عني فاضحى مزاره
بعيداً علي قرب قريباً على بعدِ

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى