بلغت الستين عاما: عميد «الأيام» الأستاذ محمد علي باشراحيل.. يتصدر شارع الصحافة في عدن

> د. هشام محسن السقاف

>
كانت الخمسينيات من القرن العشرين حبلى بمتغيرات ما بعد الحرب الكونية الثانية 39 - 1945م، فقد آن أوان تبدل الأوضاع كحتمية تاريخية بمؤشرات لا تطل برأسها فجأة و فجاءة هكذا من رحم الغيب، بل تنضج على نار هادئة في خابية المعطيات السابقة، لتحدث بعدها اللحظة الفارقة، التي كثيرا ما شبهها المشبهون بـ (قطرة) الإفاضة في الكأس الممتلئة، ونلمح عندها بشغف أن: (الثابت الوحيد هو التبدل المستمر) كما يقول هيراقليطس.

كان في عدن، حتى العام 1955م العديد من الصحف نذكر منها:
1/ فتاة الجزيرة (أولى الصحف العدنية صدرت عام 1940م)
2/ القلم العدني
3/ النهضة
4/ الجنوب العربي
5/ البعث
6/ الفضول
7/ المستقبل
وهناك صحف تظهر أحيانا وتحتجب من نفسها أحيانا أخرى.
وقد شهدت عدن في مارس 1956م (30) إضرابا عماليا، وفي الفترة من 58 - 1965 شهدت المحميات الشرقية والغربية اضطرادا في الانتفاضات الشعبية نتيجة لتصاعد المد القومي العربي والأفكار التحررية التي تهب رياحها - بالأساس - من مصر عبدالناصر.

في هذه الأجواء العاصفة المشبعة بالأفكار الجديدة، الليبرالية والتحررية والقومية والإسلامية، تبرز شخصية الأستاذ محمد علي باشراحيل كأحد أبرز الوجوه العدنية الساعية إلى التغيير.
لقد واكبت نشأة هذا الرجل العصامي النمو المتسارع في الحياة العامة في عدن بعد الحرب العالمية الأولى (14 - 1918م)، حيث تعلم في المنشاءات التعليمية المتاحة وبالطرق التقليدية دون أن يمنعه ذلك من التعلم ذاتيا وتثقيف الذات بالذات، فامتلك ناصية العربية كما ستبرهن على ذلك مراجعتنا لمقالاته وكتاباته ومن خطاباته وأحاديثه الإذاعية ابتداء من عام نشوء الإذاعة 1954م تشاركه فيها عقيلته السيدة الجليلة سعيدة حرجرة. ولكن العجيب حقا هو تملكه عنان اللغة الإنجليزية ذاتيا ليغدو أحد القليلين ممن تملكوا ناصية لغة شكسبير نطقا وكتابة داخل عدن والجنوب عموما.

 شغف العمل الاجتماعي والإبداعي والثقافي في عدن، حيث شارك في تأسيس النوادي الأدبية وترأس البعض منها مثل (نادي الإصلاح العربي) كما كانت له بصمة جلية في تأسيس حلقة (شوقي) الأدبية.
 ولم يكن الباشراحيل ليفوت الدخول في معترك السياسة، وقد ترسخت قناعات واضحة لديه لخدمة مجتمعه المحلي في عدن، فترأس المجلس البلدي، وكان العربي الوحيد المعين في المجلس التشريعي ثم المنتخب فيه، ليدوي صوته دفاعا عن مدينته الأثيرة وعن اللغة العربية. لأنها أساس الهوية لمدينة (كوسموبوليتيكن) تكتض بالقوميات والأثنيات واللغات المختلفة.

وعندما تشكل أول حزب سياسي في عدن (رابطة أبناء الجنوب كان السيد محمد علي باشراحيل ضمن الكوكبة الأولى التأسيسية لهذا الحزب العريق عام 1951م، إلى جانب محمد علي الجفري وسالم الصافي وشيخان الحبشي ورشيد حريري وعبده حمزة وآخرين. وأصبح باشراحيل نائبا لرئيس الحزب قبل أن يغادره لتعارض في الرؤى السياسية مع رفاقه على ما يبدو، أو لكي يحتفظ بمساحة أوسع للحركة بحرية حاملا قناعاته كما ستفصح الأيام لاحقا.
وآية هذا الزمان... الصحف
                **
يروق لي ترديد بيت امير الشعراء أحمد شوقي القائل:
لكل زمان مضى آية
       وآية هذا الزمان الصحف
كلما رأيت بعين القراءة سحر هاروت مبثوثا بين الحبر والورق بدء بوريقات نابليون الصفراء التي جاءت بها مطبعته إلى مصر إثر الحملة الفرنسية عام 1798م. وبعد مائة واثنين وأربعين عاما تستقبل عدن (فتاة الجزيرة)، ثم يأتي طوفان من الصحف في خمسينيات القرن الماضي، والطوفان توصيف لا مبالغة فيه مقارنة بمساحة وسكان عن حينئذ.

واللافت أن الصحافة بدأت أهلية في ذلك الحين من آل لقمان الى آل باشراحيل، ولكن لآل باشراحيل شأن آخر مع الصحافة، هو كالحبل السري الذي يغذي الجنين في بطن أمه، فمنذ أن أصدر عميد الأسرة محمد علي باشراحيل صحيفته الأولى (الرقيب) عام 1955م محررة باللغتين الإنجليزية والعربية، مرورا بـ 7 من أغسطس 1958م عندما أصدر العميد صحيفة «الأيام» الشهيرة وجعلها منبرا لكل القوى الوطنية، وحتى الآن وهي قائمة بين ظهرانينا مع فترات من الانقطاع القسري التعسفي بعد الاستقلال عام 1967م وفي عهد الدولة الموحدة بمذاق الرصاص والسجون والآلام.

تناسقت مواقف الباشراحيل الكبير وطنيا بانحيازه التام مع الحراك الشعبي التحرري في عدن والجنوب والشمال إجمالا، وكان الثمن باهظا في بعض الأحيان: إيقاف الصحيفة بموجب قانون النشر وتسجيل الكتب رقم 27 لعام 2939م الصادر في 3 يوليو 2939م، ومحاكمة الناشر، أو حتى استهداف دار «الأيام» من بعض القوى السياسية المحلية التي رأت في اتجاه الصحيفة انحيازا لخصوم سياسيين وتحديدا الجبهة القومية.

كتب رئيس التحرير (كلمة اليوم) في عدد «الأيام» رقم 1482 في 14 نوفمبر 1963 تحت عنوان: (الشعب يريد استقلالا من صنع يده) جاء فيها:
(إن الاستقلال الذي تجري المفاوضات بشأنه في لندن بين المندوب السامي السير ك. تريفاسكس وبين وزير المستعمرات البريطاني هو غير الاستقلال الذي يريده الشعب. هم يريدون استقلالا مبنيا على الكيان الحاضر.. كيان الاتحاد الفيدرالي الذي أدمجت عدن فيه، ولكن الشعب يريد استقلالا من صنع يده وتقدير تفكيره... استقلالا ديمقراطيا يحفظ للمواطن حقه في الحياة الحرة الكريمة بعيدا عن أساليب المذلة والهوان من حرمان للحريات العامة وحقوق الإنسان ونزاهة القضاء واستقلاله... استقلالا لا يفرض عليه حكامه بل يختارهم هو بنفسه في انتخابات عامة حرة و نزيهة).

ويوضح العميد رؤاه السياسية تجاه استقلال عدن بعبارات لا لبس فيها ولا غموض يقول:
(... إن عدن تستطيع أن تلعب دورا قياديا خلاقا وبطلقة واحدة تطلقها الحكومة العدنية الحاضرة تستطيع أن تبرز ولاءها للشعب وأن تحطم عند إقدامه جماعة الانتهازيين بالجملة. هذه الطلقة هي الإصرار على إجراء الانتخابات العامة في عدن ورفض كل المفاوضات الرامية إلى إيجاد استقلال مزيف للجنوب لن يخدم الشعب مطلقا بقدر ما يخدم الانتهازيين الذين يشكلون جبهة مع الاستعمار ضد الشعب) العدد 1486 في 19 نوفمبر 1963م.

وحول انضمام عدن إلى الاتحاد الفيدرالي كتب العميد ما يلي: (المجلس التشريعي ينعقد غدا لمناقشة اتفاقية لندن حول انضمام عدن إلى الاتحاد الفيدرالي وإجراء تغييرات دستورية لعدن، الاتفاقية التي وقعها وزراء عدن وسلاطين المحميات مع وزير المستعمرات. لقد أثارت الاتفاقية منذ أذاعتها الحكومة في وثيقة بيضاء وكتاب أزرق، أثارت معارضة شديدة في الأوساط الشعبية مما أدى إلى قيام مظاهرات ودخول عدد من الأشخاص السجن لقيامهم بها في وقت الذي يوجد قانون يحرم المواكب والمظاهرات. كما اشتركت المرأة العدنية في المظاهرات التي قامت في كل من عدن والتواهي والمعلا والشيخ عثمان... والواضح في كل هذا أن المجلس التشريعي لمناقشته الاتفاقية تحت حراسة الجيش وحمايته إذا ما صودق عليها لن تتم إلا على أسنة الحراب بل أكثر من ذلك، وهذا ما نخشاه على أشلاء الضحايا ودماء الأبرياء).

سيف علي مقبل، من تاريخ الحركة الوطنية اليمنية من منتصف الخمسينيات من القرن العشرين -  1967 م ص 215.
إن الاستدلات والشواهد كثيرة من كتابات الراحل الأستاذ محمد علي باشراحيل في المسائل الوطنية بدوائرها الثلاث: عدن والجنوب واليمن دون أن يغفل الدائرة العروبية والقومية وهي مادة خصبة لطلابنا والباحثين على السواء للاطلاع على نضال رجل امتهن الكتابة وجعلها سلاحا للحق والعدل والحرية. وهي المدخل لكي ننصف الرجل الذي رأى جريدته - وهي لسان الشعب - تتوقف وتصادر بعد الاستقلال الذي ظل مطالبا به ومدافعا عنه.

ويوم إن عادت «الأيام» في إصدارها الثاني على يد الجيل الثاني الأستاذين هشام وتمام محمد علي باشراحيل في العام 1991م بنسق يسر المؤسس بالإبقاء على قالبها المرسوم في ذاكرة الزمن منذ وضع مداميكها الأولى الأب في 7 أغسطس 1958م.
وفي أربعينية عملاق الصحافة العدنية الأستاذ محمد علي باشراحيل نظم الأستاذ عبدالله الدويلة في عدد «الأيام» يوم 4 أبريل 1993م، مرثيته العصماء بعنوان: (شبلان شقا بخطو الرايد الأسد) مقدما لها هذا التقديم الرائع: (مرثية لفارس الحرف الذي ما عرف الاندحار يوما، ولا عرف طعم الهزيمة في حرف هو صانعه، مرثية لصاحب الرأي والرأي الأخر.. لمؤسس صحيفة «الأيام» الغراء الأستاذ الكبير محمد علي باشراحيل.. إليه في أربعينيته المجيدة غنائيتي هذه، علها تبعث السلوى لخلفائه حملة الأحرف الوضاءة)، وهذه أبيات من المرثية:
......   .......  
......   ....... 
......   .......​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى