كان عميقا

> رشيدة محمد القاضي​

>
أصوات تأتي، لا أحد يدري من أين؟.. لكن الجميع يدرك أنها لا تنبئ بخير، كنت أنصت مع الجميع، لكنني لم أكن مهتمة لتلك الأصوات، كاهتمامي بصوت صرصور الليل، فقد بدا صوته أكثر ما يميز هذا الليل الحالك، بينما لا أحد يستمع لصوته، فكل الآذان مفتوحة نحو تلك الجلبة التي تأتي من رأس الحيّ، سمعت أمي تحدد المكان للبقية وتكرر «الجلبة من رأس الحيّ»، وهذا ما جعلني أذعن لجلبة رأسي وأفركه بيدي.

اضطررت لرسم خطوط بأظافري بين فوارق شعري، لا أدري لمَ تلك الأصوات توقظ في جمجمتي أشياء أخرى؟!
عندما اقتربتْ الضجة أكثر فتح والدي الباب، بينما انتعل أخوتي أحذيتهم و هرولوا نحو الخارج، عندئذٍ فتحت أمي النافذة وأخرجت رأسها مستغلة الظلام، وأخواتي يرتقبن بوجل جوارها، كل هذا جعلني أفكر أن يكون لي دور، فأقوم بأكثر أمنية تمنيتها طوال حياتي وهي الهرب، حيث الوقت مناسب جداً، فلا أحد سيشعر بي، وأجزم أنهم لن يتفقدوا غيابي إلا بعد ساعات وقد يتعدى اليوم، لكنني أقلعت عن هذا لعدم وجود مكان أكثر أمناً أتوجه نحوه، وهذا سبب بقائي الطويل هنا..!

لن أجد الأمان في أي مكان سأذهب إليه وهذا أمر محزن لي، أقدام إخوتي تعود مسرعة نحو الداخل، بينما أبي يغلق الباب بالتزامن مع إغلاق النافذة بواسطة أمي، الجميع يهمس والخوف حاضر بينهم، لاحظ أبي عدم خوفي، فغرز عينيه في عيني وهذا أخافني، فاطمأن أنني قد خفت كالجميع، أذني تلتقط بعض ألفاظهم لكن دون قصد، لم يكن شيئاً يهم.

أمي تفتح عينيها وهي تردد: لمن تنتمي؟
أختي تسأل: «هل مات ؟»، أخي يهمس: «أخذوا بندقيته قبل أن يأتوا به»، وآخر: «لا، لم يأتوا بجثته، لقد أتى الخبر فقط!»، أبي يعزز: «لم يجدوا الجثة!»، أنهى أخي جملته الأخيرة وهرول نحو غرفته ولم يخرج منها.. أردفت أمي: «مسكين، لقد حزن لفراق صديقه».

أنا لم أره مسكينا كما تقول أمي، لا أحد مسكين في هذه الأرض حتى الجمادات والحشرات.. خطوت نحو غرفتي، وقبل أن أغلق الباب دفعته أختي وهي ترمقني باللامبالاة، ثم وضعت أصبعها على قابس الضوء وأطفأته غير مهتمة لوجودي واقفة خلف الباب.. وتدخل تحت اللحاف وتتصنع النوم، لم يكن لي طاقة للشجار، فهذا لا يليق بالليل، وإلا لاعتبره الجميع كالأصوات التي أفزعتنا قبل قليل، لذا استلقيت على فراشي أيضاً وعلقت أنظاري بالسقف، لم أكن أرى السقف في الحقيقة بل كنت أحدق في الظلام.. وأنصت لصوته الوحيد الباقي الذي زاد الليل قداسة وتعاليا لا صوت آخر بجواره، كل الأصوات تتلاشى عداه، بينما بدأت أغيب عن وعيي كنت أسمع جلبة أخرى، لكن يبدو مصدرها مكان آخر، لم أركز جيداً.. أعتقد أن الجميع نهض وقرفص تحت درج المنزل، لكنني لم أقوَ على ذلك، لقد كان ذلك عميقا.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى