> شكري الحسني
لا شك أن لكل ذي همةٍ رسالةً مترسخة في ذهنه، نابتةً بين حناياه، لا يكاد وسواسها يفارقه لحظة؛ يسعى جاهدًا لإيصالها إلى أوسع نطاق بين الناس.
رسالة يؤمن بها كل الإيمان، بصحتها وبأحقيتها، فلا يبالي في أن يضيع عمره في سبيلها، فيهون دونها كل نفيس، ويذلل عندها كل صعب.. ويتفاوت الناس في قدراتهم على إيصال رسائلهم في نطاقات مختلفة؛ نتيجة قوة شخصية البعض وضعفها عند البعض الآخر، أو حسن حظ البعض أن وجد منبرًا يشهره، أو مالًا يتكئ عليه، أو بيئةً وارتْ سيّئه، وأظهرت حسَنه، ورفعت مجلسه؛ وسوء حظ البعض الآخر، الذي لم يجد ولو مرآةً تعكس صورة أحلامه أمامه.
ومع أن لكل رسالة خصوصية، فمنها ما يحمل هم دين، ومنها ما يحمل هم هدم ذلك الدين، سواء كان ذلك إسلاميا أو مسيحيا أو يهوديا أو مجوسيا أو غيره.
ومع كل ذلك فإن لكل رسالة من هذه الرسائل -على اختلافها- ثلة من البشر تحملها حثيثًا؛ لإيصالها للخاصة قبل العامة، وللقلوب قبل الآذان، ولا ترى بدًّا في أن تنفق كل ما تملك في سبيل ذلك.
ورسالتي هذه.. إنما هي موجهة إلى الواقفين بين التأثير والتأثر عمومًا، أو الواقفين أمام التأثر خصوصًا، فإذا كنت لم تستطع فرض شخصيتك على نطاق واسع، فلا تجعل- لمن استطاع ذلك- سبيلًا إلى فرض شخصيته عليك؛ فيسلبك ذاتك، مبادئك، رسالتك التي تربّتْ أحلامك عليها، يتركك إمعة تحبو وراءه، وتنادي بصوته، وتتزيا بزيه، بل يصل بك إلى أن تفخر بهذه الإمعية التي أُلْتَ إليها وقد أودتْ بذاتك وشخصيتك.
سأخوض كل السبل، وأقرأ في كلّ المجالات، وآخذ من كل ماهر ومبدعٍ في كل مجال، ولكنني لن أقطف إلا وردة الفن الذي أبدعه، والدر الذي رصعه، وأترك هباءه له، له مبادئه ورسالته، ولي مبادئي ورسالتي، ولن أجعل له سبيلًا للنفوذ إلى ذاتي، أو أدع شخصيته تتغلب على شخصيتي.
أنا شاعرٌ وأقرأ للسياب ودرويش والبردوني وصلاح عبدالصبور ونازك والمنفلوطي وجبران وغيرهم، ولن آخذ منهم غير شاعريتهم، غير لغتهم، غير ما أحتاجه من فن، وأترك كل ما غثّ وفسد، فلن يلوثني درويش بتثليثه المسيحي، ولا السياب في شيوعيته، لن يشيعني البياتي، ولن يصوفني جبران، مهما بلغ إبداعهم أو تأثيرهم إلا أن بين جوانحي رسالةً لا تطحنها رحى، ولا تحركها عاصفة.
إنها شعلة لا تخبو إلا لتزداد اشتعالًا، ولؤلؤةٌ لا تترسب إلا ليرتفع قدرها، ويصعب صيدها..نعم سأدرس الإنجليزية ولن تغيّر في قلبي فكرًا، أو تمحوَ نورًا، لكنني سأجعلها سلّمًا أصعد عليه حاملًا كل مبادئي؛ لأضع الشمس في أفقها المخصص لها.
سأدرس الطب والهندسة والتربية والآداب والحقوق والإعلام، ولكن لن يكون كل هذا إلا بساطًا عليه أسير حاملًا جعبة الحلم الذي لا يتغير ولا ينحني.
في أي طريق سلكت، وأي مجال بدأت كن أنت أنت، عمودٌ رفيع، وحصنٌ منيع.
فارفع مبادئك، وأحكم بناءها، ورابط بين لبناتها، ثم خض بها كل سهلٍ وقاع؛ لتجد أنك قد شققت خلفك طريقًا واسعًا يسهل لمن بعدك العبور عليه.
جهز عتادك قبل نزولك الساحة..!
سر ولا تنسَ خطواتك..!
اقرأ ولا تفقد ذاتك..!
ارسم نفسك أينما حللت، بآرائك، وانتقاداتك البنّاءة..!
لا تجعل من قلبك كأسًا في أيدي الخمارين يصبون فيه ما طاب لهم..!
لا تكن إمعة..!
كن أنت..!