> علي محمد تمام


يعد التصحيف خطأ كتابياً في المقام الأول، لأنه مرتبط بالحرف المكتوب الذي جرى عليه تغير في مكان النقطة، إلا أنه يشمل في استخدامه، التصحيف في المتون، والتصحيف اللفظي، وما يعرف بتصحيف البصر، والتصحيف السمعي، وكل خطأ بالنقل والضبط والنسبة والكتابة، دخل في التصحيف الذي جهد كثير من اللغويين العرب القدامى، لضبطه وتصويبه، لما ينطوي عليه من خطورة، لا تُغيّر وحسب في المعنى، بل يبدو أنها غيّرت حياة أشخاص، رأساً على عقب، وفي شكل جد عنيف.

ويذكر أن التصحيف لا يزال واقعاً إلى زمننا الحاضر، في الأسماء، بصفة خاصة، حيث كثيراً ما وقع لبس في أسماء مثل «غالية وعالية وعابد وعايد وعبد وعيد» بسبب تشابه الأحرف وسهولة جريان النقطة على الحرف القابل للتصحيف.
ويؤدي تشابه الحروف، وأمكنة التنقيط، إلى أنواع كتابية من التصحيف، ككلمة «رَيب» التي صحِّفت إلى «زيت» في رواية يتداولها مصنّفون قدامى. ويعرّف التصحيف على أنه تغييرٌ في أمكنة التنقيط، ولهذا يعتبر خطأ إملائياً، في أصله، خصوصاً أن اللغويين العرب القُدامى يطلقون مصطلح «التصحيف» فوراً، على كل كلمة فيها خطأ بمكان وضع النقطة، من مثل ما يورده الأزهري في «تهذيب اللغة» عندما ينقض مقولة «الحنّة خرقة تلبسها المرأة فتغطي رأسها» فيسمي الخطأ تصحيفاً ويصححه بقوله: «الأصل الخبّة بالخاء». ومثلها كلمة «الجدّاد» بالجيم، في موضع، فيطلق عليها مصطلح التصحيف، ويصححها: «وصوابه الحدّاد، بالحاء».

مما ينقل من طرائف ذلك عن أبو الحسين أحمد بن يحيى قال‏:‏ مررت بشيخ في حِجره مصحف وهو يقرأ‏:‏ ولله ميزاب السموات والأرض (الميزاب هو قناة أو أنبوبة يصرف بها الماء من سطح بناء أو موضع عال). فقلت‏:‏ يا شيخ، ما معنى ولله ميزاب السموات والأرض؟ قال‏:‏ هذا المطر الذي نراه. فقلت‏:‏ ما يكون التصحيف إلا إذا كان بتفسير يا هذا، إنما هو ‏«ميراث السموات والأرض‏». فقال‏:‏ اللهم اغفر لي أنا منذ ثلاثين سنة أقرؤها وهي في مصحفي هكذا‏.‏

وأتى غلام فسأل حمادَ بن يزيد فقال‏:‏ يا أبا إسماعيل حدثك عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخبز فقال حماد‏:‏ يا بني إذا نهى عن الخبز فمن أي شيء يعيش الناس وإنما هو نهى عن الخمر‏.‏
وجاء رجل إلى البشير بن سعد فقال‏:‏ كيف حدثك نافع عن النبي، في الذي نشرت في (أبيه القصة) فقال الليث‏:‏ ويحك إنما هو في الذي يشرب في (آنية الفضة)‏.‏

وقال القاضي أبو بكر بن أحمد بن كامل‏:‏ حضرت بعض المشايخ المغفلين فقال‏:‏ عن رسول الله عن جبريل عن الله عن رجل‏.‏ فقلت‏:‏ من هذا الذي يصلح أن يكون شيخ الله؟ فإذا هو «عز وجل»، وقد صحفه‏.‏
وكان بشر بن يحيى بن حسان يناظر فاحتجوا عليه بطاووس فقال‏:‏ يحتجون علينا بالطيور‏!،‏ وطاووس بن كيسان تابعي جليل من سادات الحديث والفقه.

وفي حديث عن أنس بن مالك، قال كان رسول الله يدخل علينا ولي أخ صغير يكنى أبا عمير، وكان له نغر يلعب به (النغر نوع من الطيور)، فمات فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فرآه حزينا، فقال: ما شأنه؟ فقالوا مات نغره، فقال: «يا أبا عمير، ما فعل النغير؟»، قالها يداعب الطفل ويعزيه، ولكن هذا الحديث طاله التصحيف، فيروي أحدهم: جلس للتحديث شيخ يعرف بمحمد بن يزيد محمش، فحدَّث أن النبي قال: «يا أبا عمير، ما فعل البعير؟»

عن إسحاق قال‏:‏ كنا عند جرير (وهو من كبار علماء الحديث)، فأتاه رجل وقال‏:‏ يا أبا عبد الله تقرأ علي هذا الحديث؟ فقال‏:‏ وما هو؟ قال‏:‏ حدثنا خربز عن رقبة. قال‏:‏ ويحك أنا جرير‏!
ونظر ابن الجصاص يوماً في المصحف في قوله تعالى «ذرهم يأكلوا ويتمتعوا»، فقال‏:‏ رخيص والله! هذا من فضل ربي آكل وأتمتع بدرهم. فإذا هو قد قرأ «ذرهم» فظن أنها «درهم»‏.

وابن الجصاص تاجر في بغداد في القرن الثالث الهجري، وكان لديه مال عظيم وكان يجالس الوزراء، ورغم ذلك فإنه كان فيه غفلة، فيُروى عنه أنه نظر يوماً في المرآة فقال‏:‏ اللهم بيّض وجوهنا يوم تبيض وجوه وسوّدها يوم تسود وجوه‏.
‏ ودخل الوزير علي بن الفرات على ابن الجصاص يحدثه وهو غافل عنه ساه، تارة ينعس وتارة يبهت، فقال له: كم ذا السهو والنعاس؟ فقال: يا سيدي عندنا في المحلة كلاب لا تدعنا ننام من كثرة صياحها وهراشها. فقال له ابن الفرات: لم لا نأمر عبيدك تضربها؟ فإني أظنها جراء. فقال: لا تقل ذلك أيها الوزير فإن كل كلب منها مثلي ومثلك.

مروّع.. إخصاء هؤلاء أم إحصاء هؤلاء!
وللتنقيط أهمية بالغة في تحديد المضمون، خصوصاً في حالات قد يشكل فيها المعنى، وقد ينقلب رأساً على عقب ويتسبب بمأساة. فقد أورد الحسن بن عبد الله العسكري (293-382هـ) في مصنّفه الشهير «أخبار المصحّفين» أن نقطة وضعت على حرف، من طريق الخطأ، كانت نتيجتها مروّعة بحق أشخاص هم المقصودون بتلك الكلمة التي صحِّفت.
ويقول العسكري الذي كان اللغوي الشهير أبو هلال العسكري من تلامذته وابن أخته، إن الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، أرسل كتاباً إلى أحد عمّاله، ليقوم بإحصاء المخنّثين، بالحاء، فجاءت الكارثة على هؤلاء أن الإحصاء تم تصحيفها، عبر وضع نقطة على الحاء، فأصبحت إخصاء، بالخاء، وحلّت البلوى على هؤلاء، وتم إخصاؤهم، فعلاً!

ويوضح العسكري أن التصحيف تمّ من قبل كاتب الكتاب الذي وجّهه الخليفة إلى عامله. وتقول صيغة الكتاب الرسمي التي أوردها صاحب «أخبار المصحفين»: «كتب سليمان بن عبد الملك إلى ابن حزم، أن أحصِ من قبلك من المخنّثين، فصحَّف كاتبه فقرأه: أخصِ من قبلك من المخنثين، قال: فدعاهم فخصاهم!».
ويشار إلى أن صاحب «أخبار المصحّفين» يورد رواية أخرى، أيضاً، لتلك الحادثة، تقول إن ثمة من قال لسليمان بن عبد الملك إن المخنّثين أفسدوا النساء في المدينة، فكتب إلى ابن حزم أن أخصِ فلاناً وفلاناً حتى عدّ أربعة منهم، كما تقول الرواية. ويوضح أن ثمة من سأل كاتبَ ابن حزم هذا، عن أن حقيقة الكتاب تقول «أحصهم» بالحاء، فيرد الرجل قائلاً: «يا ابن أخي، واللهِ عليها نقطة!».
وعلى ذات المنوال فعل صاحب «الأغاني» في رواية الحاء والخاء، فيورد رواية التصحيف التي أدت إلى ما أدت إليه من إخصاء، شارحاً السبب بأن الكِتاب قُصِد منه «إحصاء» المخنثين، ليعرفهم فيوفد من يختاره للوفادة. إلا أنه يذكر الرواية الثانية، أيضاً، والتي تقول إن النقطة موضوعة أصلاً، على الحاء.