أطفال الحرب في تعز .. معاناة نفسيّة وجروح لم تندمل

> تقرير/ نجلاء الحمادي

>  الساعة العاشرة ليلاً بتوقيت الحرب في مدينة تعز، لم يكن بحسبان خلود ذات الخامسة عشر ربيعا أنها ستكون مع موعد لتلقي صدمة نفسية وعصبية حادة تغير من حياتها.
وهي تتهيأ للنوم اخترق جدار غرفة خلود العقيبي طلق ناري، نتيجة اندلاع اشتباكات في منطقة حي المناخ التي تسكن فيه، وعلى أثرها نهضت من فراشها بفزع شديد، مما نتج عنه صدمة عصبية ونفسية شديدة، أفقدتها النطق والعجز عن تحريك أطرافها اليمنى «الذراع والساق».

هرع إليها والديها وأخوها الذي يكبرها، ليتم إسعافها إلى المستشفى على الفور، لتلقي العلاج اللازم، وبعد جلسات علاجية عديدة استعادت خلود النطق تدريجيا، فيما أطرافها اليمنى ما زالت تستجيب للعلاج ببطء، كما قالت والدتها.
لا يختلف الحال كثيرًا مع إبراهيم، ذو الخمسة أعوام، يسكن مدينة تعز، والذي أصيب باضطرابات نفسية حادة نتيجة صدمة تلقاها، بعد أن شاهد أباه وأخاه غارقين بدمائهما، تحتضنه أمه وهو المصاب كذلك بفعل قذيفة سقطت عليهم وهم يمشون آمنين في زقاق حارتهم، صورة أبيه الذي توفي أمامه لا تفارق مخيلته، لتترك له أثرًا بليغًا في نفسيته، جعلته يمتنع عن الأكل، ويصاب بنوبات صراخ وتشنجات.

قتل ورعب
عامان مضيا على إبراهيم، رغم التحسن الطفيف في حالته النفسية، بعد عرضه على استشارية في علم النفس، إلا أنه يعاود الاضطراب من فينة لأخرى، ومع ذلك يحمل علبة ألوانه وكراسة رسم، علها تُهدئ من توتره، ليصبح أبوه وأخوه طاغيين على جل بياض الورق.
تتحدث أم إبراهيم لـ«الأيام» عن هول الصدمة قائلة: «كنا نمشي في الشارع داخل حارتنا آمنين، حاضنة لإبراهيم وكان معي الابن الكبير وأبوهم، وفجأة نسمع صوت انفجار قريب منا، كان ضحيته والد إبراهيم وأخاه الأكبر، وأصيب إبراهيم بنفس اللحظة، وهو يشاهد أباه غارقا بالدم وينادي بصوت مرتفع وبرعب وخوف أبي.. أبي .. رغم إصابته».

وتضيف : «ومنذ ذلك الوقت وإبراهيم بحالة نفسية صعبة، يمتنع عن الاكل ويتشنج ولا اقدر على تهدئته ، وتغير تماما بعد مشاهدته لوالده وأخيه وهما يموتان أمامه».
تظل للحروب أوجاعها الخفية وآثارها الموسومة على القلب، وقد لا تلاحظها جل أعين وسائل الإعلام، وأطفال لم تتحمل أرواحهم الشفافة هول الصدمة، قلوبهم كانت أصغر من أن تتحمل ذلك.

مسؤول: خلفت الحرب نحو 10 آلاف قتيل وجريح ومتضرر نفسي بتعز

طفولة مبتورة
لم تكن خلود وإبراهيم وحدهما من عانوا من اثار هذه الحرب فمثلهم أطفال أخرون، عانوا من اضطرابات نفسية متعددة على إثرها فقد أحدهم القدرة على الكلام، وأخر يسير متسترا يده اليمني المبتورة داخل جيب جاكت يرتديه عندما لاحظناه وهو في قسم الجراحة، يتحاشى أعين الناس له.
وذاته الحال مع الطفلة أبرار والتي تسببت قذيفة في حي النسيرية ببتر ساقها، الأمر الذي خلف لها أزمة نفسية حادة وجعلتها تعتزل وترفض الاندماج مع المجتمع، وأمثالها الطفل يونس الذي فقد ثلاثة من أطرافه بقذيفة للمليشيات في حي الحوض شرق مدينة تعز، وكذلك الطفلتان أمل وسلوى من ذاقتا ذات المعاناة.

تحكي أم سلوى والتي تسكن في منطقة شعب الدبا: «كانت ابنتي في حضني بخير أحميها من الحرب، ولكن القدر حمل لها قذيفة بالشارع وهي تلعب لتبتر ساقها، وعانيت معها من حالتها النفسية المتعبة، بعد أن رأت نفسها بدون رجل، وترفض أن تبقى إلا بحضني أو حضن أبوها.
لم تترك الحرب بصمتها في الجسد فقط، كما هو واضح للعيان في كثير من ضحاياها، بل هي أبشع من ذلك، تصيب بضررها النفس بجروح لا تندمل.

إحصائيات
فاقمت الحرب من تدهور الصحة النفسية لليمنين بشدة، حيث كان لأطفال هذا البلد النصيب الأكبر من معاناة هذه الحرب، والذي بلغ عددهم 12,5 مليون نسمة، حيث أظهر مسح ميداني أجرته منظمة يمن لإغاثة الأطفال أن 31 % من الأطفال أصيبوا بأعراض جسدية كالصداع والإرهاق وآلام الصدر، وهو ما أعتبره الباحثون، مؤشر على الإصابة بأمراض نفسية.
ويعاني47 % من اضطرابات النوم، و24 % لديهم صعوبة في التركيز و17 % يعانون من نوبات هلع، كما يعاني 5 % من الأطفال من التبول اللاإرادي وفقا لمسح المنظمة ذاته، حيث أوضح المسح أن أطفال محافظات :صنعاء، تعز، عدن، وأبين أكثر إصابة بالخوف وانعدام الأمن والقلق والاكتئاب.

 متخصص: يجب أن تواجه تداعيات الحرب بدعم نفسي حقيقي
خلود العقيبي
خلود العقيبي

ما فعلته الحرب بالأطفال  
يقول د. أكرم عبدالقادر وهو متخصص بالأمراض النفسية إن الحرب تترك آثارها السيئة على نفوس الأطفال، وتعد آثارها جرائم في حق الإنسانية جمعاء.
مضيفا: «أن أكثر ما يؤثر على أعماق النفس البشرية، هي مشاهدة الأطفال للدمار المادي والإصابات الجسدية واعتقالات لذويهم وتعذيبهم وقتلهم، والذي بدوره يلحق دمارا نفسيا وانفعاليا بالأطفال المتعايشين لهذه الانتهاكات على مختلف أشكالها حتى بعد انتهائها.

وعن آثار هذه الأضرار المستقبلية يوضح د. أكرم لـ«الأيام» أنها تبقى عالقة في أذهان الأطفال على هيئة كوابيس ولا يجدون تفسيرا لها، موضحا أن «حالة ما بعد الصدمة، من صور وأصوات وتخيلات، تبقى ساكنة في صمت في أعماق الطفل، إلى أن يتم استثارتها بين الحين والآخر، فتنفلت من مكانها عبر الأحلام والانفعالات، وبعض السلوكيات اليومية».
وأشار إلى أن أهم تأثيرات الصدمة على الأطفال هي الاضطرابات السلوكية التي تأخذ أشكالاً متعددة، كالقلق الشديد والخوف من المجهول وعدم الشعور بالأمان والتوتر المستمر والانعزال، والتبول في الفراش، والتي تجعل الطفل يشعر بأنه مهدد دوماً بالخطر، وأن أسرته عاجزة عن حمايته رغم تواجدهم حوله.

ويضيف د. أكرم عبدالقادر: «إن صدمة ما بعد الحرب ستترك آثارها النفسية والاجتماعية بعيدة المدى على الطفل، وبعض هذه الصدمات تحدث آثاراً عميقة في الطفل وتسبب له في بعض الأحيان بصدمات واضطرابات مؤلمة ، يعبر عن مشاعرها الطفل بأوجه مختلفة، منها العدوان نحو الآخرين والتعامل بخشونة مع الزملاء، وسرعة الاستثارة الانفعالية ،والتي تعتبر انعكاساً لحالة من الأمان التي كان يعيشها الطفل في مرحلة عمرية سابقة، وهو يحن للرجوع إليها كونها تذكّره بمرحلة ممتعة بالنسبة له، أو هروباً من الواقع الموجود حالياً».

معاناة لا حدود لها
يعايش أطفال اليمن حربا دون إرادة، جاءتهم لتباغت باب طفولتهم البريئة، فاقتحمت نفسيتهم وأجسادهم معا فيما لا تزال الحرب في أوجها، وفي كل يوم يزداد عدد الأطفال الذين يذوقون لعنتها وآثارها .
وهذا ما تؤكده رغدة المقطري، وهي عضوة مؤسسة اللجنة الوطنية للرصد والتي تحدثت عن الآثار التي واجهت الأطفال خلال فترة الحرب قائلا: «لاحظنا بعض الأطفال لا يتقبلون أنفسهم، ولا يتقبلوا الشكل الذي أصبحوا عليه، بعد أن فقد البعض منهم أطراف عليا كاليدين، والبعض فقدوا أطرافهم السفلى».

وعن برامج التأهيل النفسي للأطفال قالت المقطري لـ»الأيام» : «بعد أن شاهدنا الحالة النفسية التي اصيب بها الأطفال، كان ذلك حافزا، للقيام بعمل برامج عدة للتأهيل النفسي الأطفال، للانخراط في المجتمع مرة أخرى، حيث قمنا باستهداف ما يقارب 20 % منهم، واغلب الأسر عالجت أطفالها بنفسها.
وأوضحت : «أن فترة الحرب منذ عام 2015، وحتى بداية 2019م ، خلفت ما يقارب 10 ألاف من الأطفال، ما بين جريح وقتيل ومتضرر نفسيا، « سواء ما خلفته الأطراف المتنازعة، أو ما خلفه الانفلات الأمني من ضحايا، كحال الطفل في منطقة العسكري الذي ضل يبكي ويصرخ على أمة التي قتلت بجانبه».

ولفتت إلى أن هذه الآثار إذ لم تواجه بدعم نفسي حقيقي من قبل الدولة والمنظمات فإنها ستخلف آثارا سلبية كبيرة للأطفال، مشيرة إلى أن «المسؤولية الحقيقية تقع أولا على مكتب الصحة، من أجل عمل برامج وخطط لإعادة تأهيل الأطفال نفسيا، كحال المساحات الأمنة التي وجدت في مديرية المظفر ومديرية القاهرة».
ستذهب الحرب وستبقى سرديتها وقصصها الكثيرة والمؤلمة، وآثارها كأصوات النيران وصور الجثث ورائحة الموت والرعب، لزمن طويل من أعمار الأطفال، وسيكبرون بعد عقود خائفين يعانون من اضطرابات في النوم والخيال، من خوف مستدام، ومن حساسية مفرطة لكل ما يجري حولهم، سيكبرون مع خبرة نفسية غير مستقرة، وربما تمرر لأولادهم.

سيتحدث الناس عن إعادة الإعمار، ولن يشيروا إلى أجيال متتالية خربتها هذه الحرب، لا توجد، حالياً وربما مستقبلاً، بنية تحتية طبية ونفسية جاهزة لاحتواء هذه المشكلة النفسية الخاصة، والذي سيجعل المشكلة متفاقمة أكثر، أن أحدا لا يفكر بهم.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى