قنا.. ميناء كبير بين الهند والبحر المتوسط

> إعداد/ علوي بن سميط

>  اشتهر ميناء «قنا» كأهم موانئ بحر العرب لمملكة حضرموت لدى الحضارات الأخرى، ومركز نقل البضائع والاستيراد والتصدير ومحطة عبور، أشبه بموانئ التجارة وتجارة الترانزيت في هذا العصر.. ومن مقالة علمية للآثاري والمستشرق الروسي» الكسندر سيدوف» أنقل لكم عن ميناء قنا الحضرمي:
باتت الصلات التجارية والثقافية بين جنوب الجزيرة العربية وحوض المتوسط وبلاد الرافدين وشبه القارة الهندية ثابتة منذ نهاية الألف الثاني قبل الميلاد، وتعلمنا النصوص التوراتية كذلك عن الصلات البحرية الأولى بين فلسطين وجنوب الجزيرة العربية في عهد النبي سليمان.

ومنذ أوائل عهد البطالسة في مصر، أي منذ بداية القرن الثالث قبل الميلاد، قامت علاقات بحرية شبه منتظمة بين حوض المتوسط والبلاد المحاذية للبحر الأحمر والمحيط الهندي وهي علاقات تجارة ساحلية على امتداد الشواطئ وقد بدأت التغييرات الكبرى في تنظيم العلاقات البحرية مع اكتشاف نظام الرياح الموسمية المنسوب إلى هيبالوس (Hypallos). فقد أدى هذا الاكتشاف إلى إقامة صلات تجارية منتظمة بين الهند والعالم الروماني وكانت الملاحة المباشرة بين موانئ البحر الأحمر وموانئ الساحل الهندي تقتضي تأسيس وكالات تجارية ومحطات على الساحل الجنوبي للجزيرة العربية قادرة على تقديم الماء والمؤن، ومن ناحية أخرى بدأ نقل المرّ، واللبان، والصبِر، الذي كان يتم تقليدياً بواسطة القوافل القادمة من اليمن يجري أيضاً وبكميات كبيرة عن طريق البحر .

وأهم شهادة أدبية في بداية العصر الميلادي حول تجارة المحيط الهندي هذا هو كتاب «الطواف حول بحر الحبشة» وهو كتاب إغريقي في الملاحة يشير المؤلف فيه إلى الميناءين الكبيرين على الساحل اليمني، وكذلك عدد من نقاط التموين بالمياه مثل «أوكليس»  okelis ( بالقرب من باب المندب) والمستودعات والمحطات التقنية مثل موشاليمن moscha limen على ساحل ظفار (عمان الجنوبي) دون أن ننسى القلعة التي تشرف على أطراف رأس فرتك الحديث والوكالات التجارية مثل الوكالات في جزيرة سقطرى.

كانت أول نقاط الدعم هذه «موزا» الواقعة على الموقع الحالي تقريباً لميناء (المخا) كانت «موزا» على وجه التأكيد أهم ميناء لما يسميه المؤلف «مملكة السبئيين» والحِميَريين ولم يتم العثور حتى اليوم على العلامات الأثرية لهذا الميناء.
وعلى قدر أهمية ميناء «موزا» كانت قنا الميناء الرئيسي لـ (بلاد اللبان) أي؛ مملكة حضرموت، أما الموقع الثاني على هذا الساحل فهو موشاليمن، كانت المسافة بين الميناءين تبلغ حوالي 500 ميلاً بحرياً وقد تم تأسيس الميناءين حسب المواد الأثرية في الوقت ذاته تقريباً أي؛ في بداية القرن الميلادي.

يقوم الموقع الذي عثر فيه على أطلال «قنا» على بقعة ساحلية بين خليجين صغيرين ينتهي بشعفة صخرية تسمى، حصن الغراب، على مسافة 3 كلم جنوب غرب القرية الحديثة (بير علي). تنقسم البقعة إلى أحياء مختلفة تشمل، المدينة الواطئة ، والقلعة،  وعدد من المباني المنعزلة والمقبرة. كان الميناء يتواجد - قَطعاً- في خليج (الشمال) ولم يُعثر على أي أثر للرصيف بعد. ويفترض أن السلع كانت تفرغ من البواخر في مراكب صغيرة تنقلها حتى الشاطئ .
يتغطى سطح (المدينة الواطئة) بأطلال عديد من البيوت القديمة .

ولا يسعنا كشف أي تنظيم لمجموع المباني لكن بالإمكان تحديد الطرق والساحات وليس هناك أي أثر لجدار» سور» ويبدو أن بعض أجزاء المدينة القديمة فقط، كانت محصنة وكان لمجموع البنى القائمة على سفح حصن الغراب، -على كل حال- أبراج مستديرة ومربعة مع مدخل ضيق من جهة البحر وكما تبين الحفريات، فإن هذه البيوت كانت تجتمع ضمن مجموعات سكنية كبيرة تقسمها طرق ضيقة وهناك مباني مبان موجهة بصورة منتظمة من حول باحات مغلقة تتركز على طول الشواطئ في القطاع الشمالي، والشمالي الشرقي ، من المنطقة المعمورة.

وقد تم شق درب ضيّق ووعر، يؤدي إلى القمة على  المنحدر الشمالي، لحصن الغراب، وفي بعض الممرات يتحول هذا الدرب إلى درج في خرجه، يعتمد على جدران من الحجر.
وهناك مبان تقوم خارج حدود المدينة، وكما تبيّن الحفريات فإن البنية الغربية كانت معبداً مكرّساً لآلهة محلّية، وفي الشمال الغربي من المنطقة المعمورة تقوم أطلال كنيس، كما أن ثمة (دار الجمارك) التي تقوم جانباً على شاطئ خليج الجنوب.


أما الجزء الشمالي الغربي من قمة حصن الغراب فتحتلّه أطلال ما كان -على الأرجح - قلعة تسمى (عرماوية) ونتبين فيها عشرين مبنى أما نقطة القمة فهي مغطاة بآثار بنية قوية استخدمت كمنارة للبواخر وهناك أربعة خزانات تتواجد في القمة إلى جانب أطلال القلعة والمنارة .

كانت «قنا» في القرن الأول الميلادي محطة صغيرة ونقطة تموين مياه وعدة مستودعات وبناء يستخدم كمنارة في قمة حصن الغراب، وأربعة خزانات، ويقوم أقدم المباني التي تم إخراجها أثناء الحفريات على سفح حصن الغراب عند منطلق الدرب المؤدي إلى القمة؛ وهي عبارة عن عدة قاعات مساحة كل منها حوالي 90 م2 ، مع أعمدة وتدعم السقف وقد حفرت هذه القاعات جزئياً في الصخور وكانت تستخدم كمستودعات من أجل اللبان المحروق وآثار سلال من الريش، وهذا ما يتلاءم ومقطع في كتاب الطواف، الذي يشير إلى أن «اللبان الذي ينبت في البلاد يحمل إلى قنا التي تقوم بدور المستودع ) .

ما هي السلع التي كان اليمن يستوردها عبر موانئه التجارية؟
يشير كتاب الطواف إلى مختلف أنواع القماش واللباس والمعادن كالذهب والقصدير والنحاس والمرجان واللؤلؤ والأصطرك، والمواد الغذائية من القمح، والرز والخمر والتمر وزيت السمسم العبيد، هذا فضلاً عن سلع الرفاه كالأحصنة والتماثيل والفضيات من أجل البلاط .

تنفق هذه الإشارات مع المكتشفات التي تمّت على المواقع الساحلية فمعظم (كسرات الإمفورات) التي عثر عليها في أقدم مستويات قنا، من نمط كؤوس، نعرف أن هذه الأواني الفخارية تصنع في ثلاث مناطق، كامباني campanie وإيجه مصر.

وقد عثر على كسرات قوارير (روديسية) ويقدر أن محتوى هذه القوارير جميعاً كان الخمر المستورد من كل مكان : خمر كامباني، وخمر فاليرن، وخمر رودوس، كما أن أنماطاً أخرى من (الأمفورات) كان يصنع على شواطئ إسبانيا وكان ينقل فيها منتجات مصنوعة من السمك.

ومن جملة الفخار الفخم، نذكر وجود الفخار الذي لا يمكن تلافيه terra sigillata)) والذي يتم إنتاجه في الشرق وفي إيطاليا وكذلك كسرات من أوان نبطية، شديدة الأناقة وهكذا كانت العلاقات التجارية ل (قنا القديمة) تغطي منطقة واسعة تبدأ من غربي المتوسط (إسبانيا صقلية إيطاليا) وحتى الشرق المتوسط (مصر فلسطين آسيا الصغرى) والمحيط الهندي.

تعتبر الفترة الممتدة بين نهاية القرن الثاني والقرن الخامس الميلادي -دون شك- فترة أوج ازدهار قنا القديمة، فقد اتسع سطح الموقع بصورة كبيرة لينتهي إلى تغطية مساحة قدرها خمسة هكتارات. وقد شيدت تحصينات قوية فوق البُنى القديمة على سفح حصن الغراب، كما أن دوراً كبيرة مع باحات واسعة برزت على طول البحر باعتبار أن الورشات كانت تتركز في الظاهر في الجزء الجنوبي من المدينة كما أن معبداً ضخماً كان مكرساً ولاشك للإله (سيان) إلاه حضرموت الأكبر قد شيّد في الجنوب الغربي من المنطقة المعمورة كما شيّد في الضواحي الشمالية الغربية للمدينة مبنى استخدم ككنيس، كما أنشئت أيضاً مقبرة مؤلفة من مدافن مستطيلة الشكل ذات نواويس في الشمال الغربي من المدينة وقد نتجت كل هذه التغيّرات عن التطور السياسي والاقتصادي لحضرموت.

ويبدو أن مصدر معظم كسرات الأواني الفخارية ذات الأذنين المستخرجة من المستويات الخاصة بفترة الازدهار هذه (نهاية القرن الثاني - القرن الخامس الميلادي) من أفريقيا الشمالية ونلاحظ كذلك في الفخار الدقيق الفخم منتجات إيران الشمالية، برتقالية اللون والمنتجات الهندية الحمراء المصقولة والفخار ذو الطلاء الأحمر المستورد -على الأرجح - من أفريقيا وفخار كنيد، وفخار أسوان المصري الأصل، كما أن نسبة الفخاريات ذات الطلاء الأخضر وأصلها من بلاد من الرافدين تتزايد كذلك هذه المستويات.

تقوم استنتاجاتنا حول العلاقات التجارية والسلع المتبادلة فقط على تحليل المواد الأثرية وبصورة خاصة الفخّار ويعتقد أن الأواني الفخارية ذات الأذنين من نمط شمال أفريقيا كانت تستخدم لنقل زيت الزيتون والمنتجات المصنوعة من الأسماك وأن هذه المنتجات كانت مستوردة لاستهلاك المقيمين الأجانب الدائمين في قنا وفي بقية اليمن أكثر مما هي مستوردة من أجل استهلاك السكان المحليين.

في القرنين السادس والسابع لم تكن قنا تحتل سوى الجزء الشمالي الغربي من المنطقة المعمورة القديمة على سطح محدود مبني ببيوت صغيرة منفصلة بأزقة ضيقة، واستناداً إلى النقش اليمني القديم CIH 621 والمنقوش على صخرة تحاذي الدرب المؤدي إلى حصن الغراب، فقد أعيد بناء حصن ماوية في 530-531م.

تكشف كسرات الفخار للأواني ذات الأذنين التي عثر عليها في الطبقات العليا من قنا عن وجود علاقات تجارية كثيفة مع فلسطين الجنوبية، فالأواني الفخارية ذات الأذنين المنتجة في ورشات أيلة/العقبة تؤلف حوالي 80 %من كافة الأواني من هذا النمط وكانت تستخدم من أجل نقل الحبوب والزيوت والجوز الآتية من بلاد الشام والمتوسط وفضلاً عن ذلك ظهرت كمية كبيرة من الفخار (الأكسومي) المصنوع  باليد والمشتملة على أوانٍ مطبخية وسواها مما يؤكد الصلات الوثيقة والدائمة بين قنا والساحل الشمالي الشرقي للقارة الأفريقية خلال عشرات السنين الأخيرة من وجود هذه المدينة.

من المرجح أن التخلي عن قنا قد جرى في بداية القرن السابع تقريباً إثر انقلابات سياسية ودينية كانت تؤثر آنئذ على مجموع حياة الجزيرة العربية، مؤدية إلى تغييرات في العلاقات والشبكات التجارية ومع دخول الإسلام انهار عدة منشآت قبل إسلامية، في حين ظهرت منشآت أخرى وازدهرت واستبدلت الحصون القديمة بمنشآت جديدة كميناء الشحر، وبعدها المكلا، وكلاهما على مسافة حوالي مائة كيلو متر شرقي قنا.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى