إخفاق الشرعية بعد التحرير سياسيا وعسكريا أفقدها مبررات وجودها

> كتب/ حافظ الشجيفي

>
حافظ الشجيفي
حافظ الشجيفي
فيما يبذل المبعوث الأممي جهودا حثيثة لإيقاف الحرب في اليمن والتوصل إلى حل يؤسس لسلام مستدام فيها بين الأطراف المتصارعة منذ أربع سنوات بعد أن وصلت البلاد إلى حالة غير مسبوقة من التشظي والتفكك السياسي والاجتماعي والوطني الذي بدأت بوادره تلوح في الأفق في ظل واقع يقدم المبرر الكافي لقيام كيانات سياسية في مختلف الاتجاهات الجغرافية للبلاد من مختلف الهويات والنزعات الاجتماعية والسياسية والمذهبية بفعل ما آلت إليه الأمور والأوضاع الأمنية والمعيشية والسياسية من انفلات أمني وتدهور معيشي وفساد وأزمات متلاحقة وضياع الموارد والثروات على نحو دفع بالكثير من المناطق والأهالي إلى حالة مخيفة من اليأس في إمكانية وضع حد لإحباطاتها المتلاحقة ومعاناتها الدائمة على المدى القصير والبعيد.

وإذا رصدنا نبض الشارع والشعور الطاغي لدى الناس في الجنوب أو المناطق المحررة من خلال التصريحات والبيانات وحتى الأحاديث العابرة والإطلالات الإعلامية لأفراد ومجموعات ينتمون إليها، فإننا نلمس عمق الاستياء من السياسة التي تنتهجها الشرعية في إدارة مرحلة ما بعد تحريرها من القوى الظلامية التي غارت عليها. فالأصوات تشكو وتنتقد غياب الأمن والأمان وتراجع الخدمات وارتفاع الأسعار والبسط العشوائي على العقارات العامة والخاصة وتعطل آلية صرف الرواتب وتجميد القانون وتردي الخدمات وانهيار العملة المحلية، بالإضافة إلى تعثر ملف إعادة الإعمار وعجز الشرعية ومعها دول التحالف العربي عن حسم الحرب مع تلك القوى.

ولئن كان العجز رسميا وحكوميا وتشريعيا وعسكريا في المقام الأول، فإن الفشل المستشري الذي أصاب كل محاولات التصحيح والإصلاح يشهد في الحقيقة على إخفاق مجتمعي كامل.. إخفاق المجتمع بأكمله في التعامل مع مأساته والخروج من المحنة التي ابتلاه الله بها في هذه المرحلة من تاريخه.
اليوم كل شيء في اليمن مهدد بالانهيار الوحدة والمجتمع والجغرافيا والاقتصاد ومؤسسات الدولة والدولة نفسها وحتى التحالفات القبلية التقليدية تواجه تحديا خطيرا، وكلما استمرت الحرب وغابت الدولة ازداد أمد هذه الفوضى والمأساة الإنسانية الكبرى وازداد تدخل الإقليم وتلاشت فرص الحل والفرج.

فالشعب ودولته ومكوناته لم يتوصلوا مجتمعين إلى حل يضمن لهم الخروج من هذه الأزمة وتداعياتها الأليمة بما يؤكد على وجود اختلال ما ضمن هذه التركيبة، حيث إن الدولة التي يفترض أنها تجسيد لإرادة الشعب في العيش المشترك المنسجم المتناغم قد أخفقت إلى حد بعيد في مهمة جمع اليمنيين على الأقل في المناطق المحررة على كلمة سواء حتى الآن، ومن الطبيعي في هذه الحالة أن تتعرض إلى التشكيك أو الهجوم وتفقد هيبتها بل مبررات وجودها من الأساس.

إن ما نشهده على أرض الواقع في الجنوب وفي المناطق المحررة أفقد الشرعية ثقة مكونات الشعب وأضعف شعور الولاء لها والانتماء إليها، فتجرأت عليها بعض المكونات وصرحت بعدم استعدادها على احتمال عجزها اللانهائي والصبر على تقصيرها وتخاذلها وتخليها طوعا أو كرها عن واجباتها والتزاماتها تجاه مناطق كثيرة.
ولئن اتخذ هذا الرفض وانعدام الثقة في الشرعية وحكومتها أشكالا مختلفة من ردود الفعل في أوساط الشعب اليمني شمالا وجنوبا لم يكن أسوأها تصريح الجنوبيين برغبتهم في الاستقلال مع كل الاحتجاجات والمظاهرات الشعبية المنددة بسياسات الشرعية التي شهدتها كل المدن والمناطق المحررة حتى الآن.

وعلى الرغم مما يشوب بعض هذه الدعوات من شبهات في التوقيت وفي الطرح الفكري وفي الظروف التي برزت فيها.. وعلى الرغم من الرفض التلقائي والفوري الذي يوجه ضدها من قبل الكثير ممن يرون أن الوحدة  أمر مقدس لا يحتمل التشكيك ولا النقاش.
إلا إن الأزمة التي يمر بها الوطن شمالا وجنوبا ومساعي الحلول وضرورة طرق كافة الأبواب لإنقاذه تجعل من غير المعيب ولا المستهجن في شيء أن يتم طرح هذه الخيارات بصوت عال والتفاعل حولها والنظر في ما قد يحمل من إيجابيات في مجتمع عانى من الصراع والاقتتال الداخلي والتدخل الخارجي المباشر المتمثل في دول التحالف العربي.

فالمطالبة باستقلال الجنوب ليست بالكارثة التي يبرر بها البعض اعتراضه عليها مقارنة بالدمار الذي حل بالبلاد.. ومناقشة رغبة إقليم أو مجموعة أو محافظة أو قبيلة أو أي تشكيل مجتمعي في تقرير مصيره بنفسه أو الحصول على حكم محلي ذاتي قوي أو القدرة على اتخاذ القرار بمنأى عن المركز الغائب أصلا.. مناقشة كل هذا لن تزيد من كارثية ما حل بنا.. كما أن الإحجام عن المناقشة الشفافة الواضحة لن يعجل بحلحلة الأمور المتشعبة في بلدنا بقدر ما قد يسهم في تفاقمها وهو ما يحدث على الأرض فعلا.. ولن يمنحنا وصفة سحرية أو مخرجا عاجلا من المأزق والأفق المسدود الذي وصلنا إليه!!

في علم النفس يلوذ العقل بالماضي ويتحنن إليه عندما يصطدم بسوء الحاضر الذي يعيش فيه ويرفض تفاصيله.. والحالة الجنوبية ليست استثناء هنا.. لكن بعيدا عن التحليل النفسي فإن ما يجري كذلك يدل على عدم ارتقاء الدولة بشكلها الحالي إلى مستوى يلبي تطلعات اليمنيين شمالا وجنوبا ويرضي طموحاتهم.
فالمركز بالمفهوم اللغوي.. يعني وسط الشيء، أو قلب الجسم. المركز يغذي سائر أعضاء الجسد ويتولى إمدادها بالحياة كالقلب في الجسد والمنبع في النهر.. حينها يكون ارتباط الأطراف سبب ارتواء وحياة، وانفصالها عنه مجلبة للجفاف والفناء..

لكن هل ينسحب هذا التوصيف على الحالة اليمنية الغريبة في كل شيء؟
الشرعية التي تمثل الدولة في بلادنا تتبنى خيار الأقاليم باعتباره الحل الأمثل لكل هذه المشاكل كما تدعي ..ولكن ماذا قدمت الشرعية "المركز" حتى الآن لإثبات أن هذا هو الحل الغائب والجذري لمشاكل اليمن..

هل منح المركز أي الدولة متمثلة في الشرعية التي تقيم بالرياض- الحياة لباقي المناطق؟
هل باستطاعة الشرعية كدولة أن تضمن قوت المواطن في الجنوب والشمال والشرق والغرب والوسط؟؟
هل تقوى على ضمان أمن المواطن في مختلف المناطق؟

هل تستطيع المحافظة على ثروات الجنوب والسهر على حسن توزيعها وضمان تدفقها وسلامة وشفافية إنفاقها في ما ينفع الناس الذين يفترض أنهم قد أطاحوا بنظام غير عادل وأحلّوا محلّه دولة مركزية. توافقية "منتخبة" عادلة.
السؤال الأسهل هو: ما الذي تستطيع الشرعية "الدولة اليمنية" أن تقدمه للشعب بعد ثلاث أو أربع سنوات مضت حتى الآن من الحرب مع الحوثي إن لم تستطع حسم هذه الحرب حتى الآن ولا يبدوا أنها ستحسمها قريبا وإن لم تحسن إدارة المناطق المحررة أيضا؟

الإجابة قد تكون محل خلاف، فالبعض سيعترض والبعض الآخر سيرد بالإيجاب وتتباين الأرقام والنسب المئوية ولن ينتهي النقاش إلى إجابات مفيدة تخدم جوهر الموضوع وغايته وهو إفادة جماهير الشعب بشأن جدوى الاستمرار تحت سلطة الشرعية من عدمها هذا هو جوهر الموضوع.
لكن اختلاف الإجابات حول نسبة النجاح والإخفاق يحسمها تنازل جدلي منهجي مؤقت.

 نعم.. قد تكون الشرعية بشكلها الحالي حققت بعض النجاح في بعض المجالات ونجاحات أقل في مجالات أخرى.. وفشلت في معظمها، لا يهم.
حينئذ نطرح السؤال العصي والأكثر حساسية: أين نجحت الشرعية؟ ومع من نجحت؟ من استفاد من نجاحها؟ ومن تضرر من إخفاقها؟ وما هي المدن والفئات التي انتفعت؟ وما هي المدن والفئات التي تضررت؟

هذا بدوره يقودنا إلى معضلة أخرى وهي إرادة الإنجاز لدى الشرعية التي تمثل مركز الحكم وأسباب عدم الإنجاز.. لماذا فشلت الشرعية في مدن وأخفقت في أخرى؟ لماذا لم تنجح في جزء معين من الجنوب؟ ونجحت في مأرب أو حضرموت؟ ومن تسبب بالإخفاق؟ ومن استفاد من النجاحات؟
كل هذه الأسئلة مجتمعة تترجم الحيرة والغموض الذي يكنتف المشهد اليمني برمته اليوم.

وإذا كانت الشرعية بشكلها المغترب الحالي وحالتها الراهنة عاجزة عن القيام بواجباتها المنوطة بها تجاه مواطنيها فحري بها ألا تقف حجر عثرة أمام محاولات بعض المناطق في البحث عن خيارات وبدائل مناسبة أخرى لها.. وفي نهاية المطاف.. فإن الكل يستمد قوته من الأجزاء فمنها الشرعية والتمكين.. وعلى الشرعية التي تزعم أنها تمثل الدولة ألا تعاكس مجرى الماء.. لأن الشعب من مكونات الدولة ومصدر السيادة وأداة فرضها ومصلحته هي المستهدفة من إنشاء أي كيان.. 

لكن.. ما لا يجرؤ أحد على قوله اليوم، لاستحياء أو لخوف أو لانتهازية، هو المفتاح الذي يقود إلى إبداء رأي صريح بمسألة الفيدرالية والحكم الذاتي وتقرير المصير والاستقلال، والأحرى بنا كيمنيين، والوطن مذبوح بين أيدينا ولا نجد لطعنته ضمادا، أن نتصارح ونتكاشف ولا نجبن على الصدع بالحق ولو كان مُرّا!
يعتبر بعض اليمنيين وخصوصا الجنوبيين منهم أن ثروات بلدهم لا تصل إليهم.. وأنه لا أثر لها في حياتهم اليومية.. ولا دور لها في مجابهة مشاكلهم واحتياجاتهم بسبب عجز الدولة ممثلة بالشرعية في إدارة الموارد.

أما البعض الآخر فيرى أن إدارة الموارد التي يفترض أنها ملك للدولة والشعب ليست بيد الدولة ولا يستفيد منها الشعب!
لكن البعض الآخر يرى أن اتهام الدولة بالتقصير ظلم بيّن لأنها غير قادرة لا على السيطرة ولا على التقصير!

والنتيجة بين هذا وذاك.. إن الدولة أصبحت عبئا على الشعب المحروم من ثروته.. بل هي تكاد تقتسم معه القوت اليومي لأبنائه..
الدولة اليمنية شديدة الفقر رغم مظاهر الثراء ورغم كل الإسراف والتبذير والبذخ ورغم ميزانيات الحرب الباهظة وميزانيات الفنادق والسفريات!

الدولة اليمنية هي الاستثناء الوحيد في العالم أجمع إذ لا تغذي الأطراف بل تمتص مواردها كي تبقى وتستمر كشرعية في غربتها الوطنية الطويلة على حساب الأطراف.
فكيف السبيل إلى إقناع دعاة الانفصال بالبقاء في ظل هذه الدولة اليمنية الموحدة؟!​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى