حرب الموانئ بين القواعد العسكرية وامتيازات الاقتصاد

> «الأيام» عن «نون نوست»

> سعت الإمارات من خلال شركة موانئ دبي للاستحواذ على الموانئ في القرن الأفريقي والبحر الأحمر
القرن الأفريقي، تلك المنطقة الإستراتيجية الواقعة على رأس باب المندب والمنحصرة بين البحر الأحمر شمالاً والمحيط الهندي جنوباً، على شواطئه تشتعل حربٌ باردة للاستحواذ على موانئه، حرب باتت جلية في السنتين الأخيرتين، ومع اندلاع الأزمة الخليجية عام 2017، في سبيل السيطرة على خطوط الملاحة العالمية تسارع الدول إلى حجز مواقع لها على الخارطة الجيوسياسية في الإقليم.

هذا الملف الساخن والمتطور، وقف عنده فريق برنامج «المسافة صفر» المذاع على قناة الجزيرة؛ لتفكيك مشهد حرب الموانئ، والكشف عن مساعي الإمارات في منطقة القرن الأفريقي؛ لإيجاد موطئ قدم لها في المنطقة، عبر احتكار إدارة موانئها، بل وحتى بناء قواعد عسكرية تمنحها القوة والنفوذ في هذه المنطقة.

كواليس الصراع في القرن الأفريقي
في الوقت الذي يتوسع فيه النفوذ الصيني لإحياء طريق الحرير عبر شبكة خطوط برية وبحرية لربط القارات الثلاث (آسيا وأفريقيا وأوروبا)، تعمل الإمارات لوضع يديها على مواقع إستراتيجية في دول القرن الأفريقي (الصومال وجيبوتي وإرتيريا وإثيوبيا)، وتختار لهذه الموانئ أن تعمل وفق ما ترسمه لها.

ظهر ذلك جلياً في الخلاف بين الإمارات وجيبوتي، المركز التجاري الرئيسي بشرق إفريقيا، ورابع أفضل دولة أفريقية طورت قدرتها على ربط العالم شرقاً وغرباً، و رغم أنها أصغر دول القرن الأفريقي، يستقبل ميناءها 850 ألف حاوية سنوياً، وفقاً لإحصاءات البنك الدولي، الذي يعتبر موانئ جيبوتي من أكثر الموانئ تطوراً في العالم.. من أجل منافسة موانئ أخرى كبيرة على البحر الأحمر مثل ميناء جدة السعودي، وعلى المحيط الهندي مثل ميناء صلالة في عُمان، تطمح جيبوتي إلى رفع كفاءة وقدرة موانئها لتتحول إلى مركز إعادة شحن دولي في المقام الأول، كونها تنفرد بموقع إستراتيجي لا تتمتع به موانئ أخرى تعتمد على نشاط إعادة الشحن مثل ميناء جبل علي في الإمارات، الذي يستحوذ على حصة الأسد بطاقة استيعابية تبلغ 22 مليون حاوية سنوياً.

على إثر ذلك جاء الخلاف ووصل حد القطيعة واللجوء للمحاكم الدولية بين البلدين، خاصة بعد رفض الإمارات وشركتها قيام جيبوتي بتوسيع أو إنشاء موانئ جديدة على الساحل الجيبوتي، مثل ميناء دوراليه متعدد الأغراض، الممتد من ميناء دواليه للحاويات، والذي أنشئ لتلبية الخدمات اللوجستية لدى سفن الشحن وحاويات النفط بتكلفة نصف مليار دولار، وهو جزء من استثمار مشترك من قِبل شركة كيناء جيبوتي وشركة «ميرشنس» الصينية.

ومع ازدياد حدة المنافسة وانفتاح جيبوتي على كل الدول للاستثمار على أراضيها، تصاعدت الخلافات مع الإمارات ووصلت ذروتها عندما قررت جيبوتي فسخ العقد المبرم عام 2006 حول ميناء دوراليه للحاويات، وقد حاولت جيبوتي تعديل هذا العقد عدة مرات، ما اُضطرها العام الماضي لتجريد شركة موانئ دبي من امتيازها، استنادًا إلى قانون أقره البرلمان في فبراير 2017، ومنح الحكومة سلطة إنهاء العقد مع مشغل الميناء في دبي، بسبب تعارضه مع المصالح الأساسية للدولة على حد قولها.

الأمر الذي برَّره ممثل حكومة جيبوتي الذي وقع العقد أبوبكر هادي، رئيس موانئ جيبوتي حالياً، برفض الشركة الإماراتية استقبال السفن في ميناء دوراليه بحجة عدم وجود سعة، وتوجيهها بدلاً من ذلك إلى ميناء جبل علي في الإمارات، لكن بيانات البنك الدولي تؤكد أن عدد الحاويات التي تصل إلى ميناء دوراليه سنوياً لم يصل إلى سعته التخزينية المفترضة، وهو ما يفند أيضاً ادعاءات شركة موانئ دبي بأن القدرة الاستيعابية لميناء دوراليه قد تم تجاوزها.

منذ أن تم فسخ عقد شركة موانئ دبي تسابقت دول عدة مثل فرنسا وسنغافورة وكندا للاستحواذ على محطة دوراليه للحاويات، لكن جيبوتي كانت تثق في الصين، التي ترى فيها بوابة تجارية هامة ضمن مشروعها الطموح «طريق الحرير»، ذلك المشروع الذي تضخ فيه الصين مليارات الدولارات للاستثمار في البنى التحتية العملاقة لأكثر من 65 دولة، بدءاً من المحيط الهادي مروراً بدول الشرق الأوسط وشرق إفريقيا وصولاً إلى أقصى شمال القارة الأوروبية.

موانئ وسجون وقواعد عسكرية
استحوذت الصين المنافس الشرس للإمارات في القرن الأفريقي على معظم مشاريع إنشاء وتوسعة الموانئ، وكلا البلدين ينظر لجيبوتي كمفتاح من أجل الوصول إلى الدول الأفريقية الحبيسة، لكن الصين لم تكتفِ بتطوير البنية التحتية للموانئ والسكك الحديدية والمطارات في جيبوتي، بل قامت بإنشاء أول قاعدة عسكرية لها خارج حدودها، إلى جانب قواعد عسكرية أخرى لفرنسا والولايات المتحدة واليابان ومنظمة حلف شمال الأطلسي «الناتو»، بالإضافة إلى قوات أجنبية لمكافحة القرصنة.

كما كانت للإمارات قاعدة عسكرية قبل أن يندلع خلاف بين الطرفين، وأدَّى ذلك إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بينهما، وكبديل عن القاعدة والميناء اللذين خسرتهما في جيبوتي، تجلى التغول الإماراتي عبر ذراع شركة موانئ دبي في القرن الأفريقي أيضًا عند السواحل الإرتيرية.

بعد خلاف الإمارات مع جيبوتي، اتجهت الإمارات إلى إريتريا ووقعت اتفاق في عام 2015، تستخدم بموجبه ميناء ومطار عصب على البحر الأحمر لمدة 30 عامًا، وينص الاتفاق على أن تدفع الإمارات مقابلاً سنوياً للسلطات الإرتيرية، إضافة إلى 30 % من دخل الموانئ بعد تشغيلها.  

لكن تحقيق قناة «الجزيرة» كشف عبر صور الأقمار الصناعية أن المنطقة تحولت لثكنة عسكرية إماراتية تنطلق منها طائراتها ضمن عمليات التحالف السعودي الإماراتي في اليمن.
أظهرت صور الأقمار الصناعية إقامة الإمارات سجناً سرياً على الساحل الإرتيري.

لم ترصد الصور الملتقطة مؤخراً أي وجود لحاويات أو سفن تجارية في ميناء عصب، وبدلاً من ذلك كانت هناك 13 سفينة، 11 سفينة عسكرية واثنتان للنقل الحربي، أمَّا مطار ميناء عصب التابع للإمارات أيضاً فظهرت فيه عشرات السفن، أغلبها لعمليات النقل العسكرية والباقي سفن قتالية.

موانئ دبي.. القوة الناعمة
على الرغم من أن الخارطة العسكرية في اليمن ليست ثابتة أو محسومة، فإن استماتة الإمارات لبسط نفوذها على باقي المدن اليمينة المطلة على البحر الأحمر باتت حقيقة لا تقبل الشك، فهي تمد نفوذها إلى أغلب موانئ اليمن التجارية والنفطية في محاولة منها لتوسيع تواجدها على ضفتي مضيق باب المندب دون وجود أي منافس لها.

لذلك لم يكن مستغرباً اندفاع الإمارات نحو موانئ الصومال، البلد الأفريقي الذي يتمتع بأطول ساحل في أفريقيا، ويطل على المحيط الهندي وخليج عدن، ويبلغ طوله 3 آلاف كيلومتر، تتوزع على سواحله 3 موانئ رئيسية هي: ميناء العاصمة مقديشو، وميناء كيسمايو في إقليم جوبالاند، وميناء بوصاصو في إقليم بونتلاند، بالإضافة إلى ميناء بربرة في إقليم أرض الصومال.

اثنان من الموانئ الصومالية الأربعة استحوذت عليهما شركة موانئ دبي الإماراتية، في صفقات حامت حولها الشبهات، وأثارت خلافات حتى بين الصوماليين أنفسهم، فقد جرى ذلك دون موافقة الحكومة الفيدرالية في مقديشو، وترى الحكومة أن هذه الصفقات غير شرعية، لأن الإمارات تتعامل مع إقليم أرض الصومال الانفصالي الذي لم يحظ بأي اعتراف دولي، في حين تتعامل مع الإقليم كدولة مستقلة ودون الرجوع إلى الحكومة الفدرالية في مقديشو.

قواعد عسكرية
في مايو عام 2015، وقَّعت الإمارات مذكرة تفاهم مع إقليم أرض الصومال الانفصالي والمطل على خليج عدن لتطوير ميناء بريرة، مع حق الوصول إلى مطار المدينة الساحلية المطلة على مضيق باب المندب شمالي غرب الصومال، وتُظهر صور الأقمار الصناعية التي بثتها «الجزيرة» وجود قاعدة جوية وبحرية إماراتية إلى جانب المطار، فقد قبلت حكومة أرض الصومال في فبراير 2017 طلباً إماراتياً رسمياً للحصول على إذن لفتح قاعدة عسكرية لها في بربرة.

اتفاق آخر أبرمته شركة موانئ دبي في أبريل عام 2017، مع إقليم بوتنلاند أو أرض البنط شبه المستقل، حيث حصلت الشركة الإماراتية على امتياز لمدة 30 عاماً بقيمة 336 مليون دولار لتطوير وإدارة ميناء متعدد الأغراض في مدينة بوصاصو التي تقع إلى أقصى الشرق من بربرة.

ليست الإمارات وحدها في الصومال، ففي سبتمبر 2014، انتقلت مهام إدارة ميناء مقديشو لشركة «بيراك» التركية، بموجب عقد أبرمته الحكومة الصومالية مع تركيا لمدة 20 عاماً، كما قامت تركيا بإنشاء أكبر قاعدة عسكرية لها خارج الحدود في الصومال.

قطر كذلك كانت لها حصة من الموانئ الصومالية بعد إبرام اتفاق مع مقديشو، في منتصف ديسمبر الماضي، لبناء ميناء «هوبيو» في منطقة مدغن وسط الصومال، وفي خطورة تعزز حضور الدوحة الأفريقي وفق الدبلوماسية الجديدة التي تنتهجها منذ فرض الحصار عليها في يونيو 2017، وبعد الاتفاق على بناء أكبر ميناء على البحر الأحمر في السودان في نوفمبر 2017.

مثل هذه الاتفاقيات لم تعارضها مقديشو، فتركيا وقطر تستثمران في موانئ الصومال بالتنسيق مع الحكومة الفدرالية مباشرة، بعكس الإمارات التي تؤكد مقديشو أنها دخلت من الأبواب الخلفية عبر المفاوضات السرية في يونيو 2013 بين شركة موانئ دبي وإقليم أرض الصومال، من خلال رجل الأعمال الجيبوتي عبدالرحمن محمود بوريه، الذي لجأ إلى الإمارات بعد نشوب خلافات بينه وبين حكومة جيبوتي. 

ويكشف سباق القواعد العسكرية في القرن الأفريقي كيف أصبحت صفقات الموانئ التجارية مجرد مدخل لبناء تلك القواعد، فإلى جانب القواعد الأجنبية في جيبوتي وقواعد الإمارات في كل من إريتريا وإقليم أرض الصومال الانفصالي، باتت لتركيا أكبر قاعدة عسكرية خارج حدودها في مقديشو، ودول أخرى في الطريق، وهو ما أكسب موانئ القرن الأفريقي أبعاداً أمنية، ليس فقط لموقعها الإستراتيجي بين طرق التجارة البحرية، ولكن لقربها أيضاً من الصراعات الإقليمية.

بين القوة الناعمة المتمثلة في شركة موانئ دبي والقوة الخشنة المتمثلة بالنفوذ العسكري تواصل الإمارات سعيها للحصول على نفوذ مشروع في موانئ القرن الأفريقي والبحر الأحمر، لكنها تُقابل بمنافسة شرسة من دول كالصين وتركيا، ومع هذا التنافس المحموم تبدو منطقة القرن الأفريقي ذاهبة نحو مزيد من النفوذ الأجنبي، جالباً معه صراعاته الخاصة إلى منطقة مضطربة بالأساس.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى