حين يصبح شهريار راويا (2-1)

> وهيب سالم السعدي

>
وهيب السعدي
وهيب السعدي
يُعد كتاب فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء من أهم الكتب المؤلفة على ألسنة الحيوانات، ويتضمّن قصصاً هادفة ذات منحى اجتماعي وسياسي، وقد اتّخذ المؤلف لتلك القصص راوياً هو (الشيخ أبو المحاسن حسان)، أما بطلها الذي تدور حوله أحداث القصة فهو الأمير (حسيب)، وهو في الوقت نفسه راوٍ داخلي يروي قصصاً وأحداثاً عديدة ومتنوعة، ومنها قصص على ألسنة الحيوانات والطيور. والكتاب يعالج قضايا النظام السياسي على ألسنة الحيوان والطير، ويضع قواعد الحكم الرشيد، ويهتم بالحكمة ومكارم الأخلاق.

مؤلفه هو أحمد بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم، شهاب الدين، المعروف بابن عَرَبْشاه (الدمشقي)، أديب ورحالة ومؤرخ، مشارك في أنواع من العلوم كالفقه واللغة والنحو والبلاغة والنظم باللغات الثلاث العربية والفارسية والتركية، ولد بدمشق سنة 791هـ، ونشأ فيها، وتوفي بالقاهرة منتصف رجب سنة 854هـ.

تناسل الحكايات في كتاب فاكهة الخلفاء
تناسل الحكايات مصطلح لغوي جاء به النقد الأدبي الحديث، ويدل على ظاهرة وجود حكاية في إطار حكاية أخرى، وكل حكاية داخلية لها بطلها الخاص بها ولها شخصياتها وأحداثها المختلفة عن الحكاية الأم، وخير مثال على هذا النوع من الحكايات كتابا (كليلة ودمنة) و(ألف ليلة وليلة).
وإذا ما نظرنا إلى كتاب (فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء) فإننا نجده ينقسم إلى عشرة أبواب، تختلف من حيث طولها وعدد الحكايات في الباب الواحد، غير أنها تجمعها حكاية إطارية واحدة، تتفرع عنها باقي الحكايات في الأبواب كلها، وتترابط الحكايات في كل باب ضمن الحكاية الإطارية وتتضافر لتؤدي وظيفة واحدة، وعلى الرغم من أن لكل حكاية مضمّنة شخصيتها ومقوماتها إلا أنها تنتمي إلى البناء السردي العام من حيث الوظيفة الكلية وارتباطها بالإسناد، فتسهم مع الحكاية الأم في بناء الصورة الكلية للحكاية.

تبدأ الحكاية الأم (الإطار)، التي تصدّرت الباب الأول، بجملة استهلالية (قال الشيخ أبو المحاسن)، ومن خلالها يتحدد الراوي الذي يتماهى مع المؤلف نفسه، فأبو المحاسن يحكي حكاية (حسيب)، وهو أصغر أولاد الملك (القيل)، الذي ترك خمسة أولاد، وكلهم مشهورون بالحلم والعلم والحكم، بيد أن حسيباً كان المقرّب من أبيه الملك، نتيجة ما حصل عليه من العلم والفهم، حتى عُرفَ بين الناس بالحكيم.

وعندما رحل الملك عن الدنيا تولّى أكبر أبنائه الحكم، فأطاعه إخوته، واستمروا في الوفاء له فترة من الزمن، ثم حصل بينهم من الجفوة، وطلبوا الرئاسة كأخيهم، وتنازعوا فيما بينهم على المُلك، فآثر أخوهم الأصغر (حسيب) ألّا ينحاز إلى واحد من إخوته، واستشار من هم محل ثقته فنصحوه باعتزال الأحداث ليكتب كتاباً يشتمل على حكايات في فن سياسة الملوك والحكمة والأدب ومكارم الأخلاق. فدخل (الحكيم حسيب) على أخيه الملك ليخبره بما عزم عليه، وكان للملك وزيرٌ يحسد حسيباً ويكرهه، وقد بلغه ما قاله حسيب للملك، فأوغر الوزيرُ صدرَ الملك عليه، وحذّره من مغبة كتابة الكتاب، وطلب من الملك مواجهة حسيب ليبين له خطأه، فوافق الملك على طلب وزيره، فطلبَ أخاه حسيباً، واستدعى الحكماء والعلماء وكبار رجال دولته ليبيّن لهم محتوى الكتاب الذي يزمع كتابته، لمعرفة ما فيه من الأسرار. ولمّا حضر(الحكيم حسيب) بين يدي الملك، قام بذكر كثير من مسائل الحكم، والصفات التي يجب أن يتصف بها الحاكم، ومنها السكون، والوقار، والثبات، والعدل، واجتناب الإسراف والتبذير، والمحافظة على أموال الناس ودمائهم... إلخ.

هذه هي الحكاية الإطارية التي يبدأ بها السرد في كتاب (فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء)، ومن خلالها يتم المحافظة على تماسك البنية السردية، ثم تتناسل منها الحكايات المضمّنة، ونرى، هنا، أن الراوي لم يطل السرد في الحكاية الإطارية، بل انتقل سريعاً إلى الحكايات المضمّنة (البسيطة) التي ضمّها الباب الأول، ثم انتقل إلى الحكايات (الإطارية الداخلية) التي تضمّنتها الأبواب من 2-10.

وفي الحكايات (المضمّنة) كلها نجد الحكيم حسيباً يستخدم (الروابط اللفظية) حتى يربط الحكايات المتولّدة بالحكاية الأم، من مثل قوله: “وحسبك يا ملك الزمان لطيفة أنوشروان”. (ص41) ثم يقوم بحكاية الحكاية (التضمينية). وبعد أن ينتهي من سرد الحكاية يُظهر سبب ذكرها والهدف الذي أراده من روايتها من مثل قوله: “وإنما أوردتُ هذا البيان؛ ليتحقق مولانا السلطان أن حركاته ملكة الحركات، وصفاته سلطانة الصفات، وكلامه ملك الكلام فلا يصرفه في كل مقام، وليصنه بالتأمل قبل القول، وليحتط لبروزه ويحفظه بالصدق والطَّوْلِ، وإذا أمر بأمر فلا يرجع فيه بل يستمر على ما أمر لئلا يُقال سفيه...” .(ص42) ثم يدعوه إلى الاستشارة وقبول النصيحة، ويحكي له (حكاية الملك سليمان)، وهو نبي الله وأحد ملوك الدنيا، الذي استشار نملة وأهمل نصيحة وزيره (آصف بن برخيا).

وبعد توجيه النصح يبرّر الحكيم حسيب سبب اتخاذه قرار الاعتزال، فقد لجأ إليه بعد أن رأى أحوال المملكة قد تغيرت، فكثرَ فيها الفساد، وضاع العدل وأُبعد أهل الدين والفضل، وأُسندت المسؤوليات والمناصب إلى غير أهلها. ويبيّن أنه أنما أراد النصيحة عندما سمح له الملك بالكلام، وما دفعه إلى ذلك إلا المروءة وعلاقة الإخوّة.
أُعجب الملك من كلام أخيه حسيب، غير أن وزيره أراد معارضته، فأخذ زمام الكلام ليثبت للسلطان خطأ كلام الحكيم حسيب، وعرَضَ البراهين والدلائل التي تدعم موقفه وتقوي حججه، ومنها أن حكى حكاية (قابوس بن بشكمير).

ثم ينتقل الحكي إلى الحكيم حسيب، ليبدأ بتفنيد كلام الوزير وتوضيح خطأه، فينتقل إلى حكاية (واقعة الرئيس مع بهرام جور)، وينتقل إلى (حكاية الذئب مع الجدي)، ثم إلى (حكاية ابن آوى والحمار) وهي الحكاية الأخيرة في الباب الأول. وينتهي هذا الباب باعتراف الوزير بحكمة وفضل الحكيم حسيب، وحسن النصيحة، فأذعن للحق. أما الملك فقد أكرمَ أخاه حسيباً وقدّره ورفعه. وبعد أن تنتهي حكايات الباب الأول، التي أدت وظيفتها، انصرف الحكيم حسيب ليتفرغ لتأليف كتابه الذي يضم الحِكَم وحكايات ملوك العرب والعجم وغيرها.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى