قصة قصيرة: استقالــــة

> أ. حنافي جواد

> اتَّكأَ شابٌّ، نحيفةٌ بنيتُه، خائرةٌ قُواه، يُضمِر البؤسَ محيَّاه.
اتَّكأ على جزءِ حديدةِ لوحةٍ إشهاريةٍ ضَخْمةٍ معالِمُها، عريضة مناكبُها، صمَّمتْ تصميمًا رائعًا، تشد إليها الناظِرين، وزخرفتْ بزخارف تجذُب إليها المشاهِدين.
كان الشابّ يَنتظِر قدومَ الحافلة العموميَّة، المتَّجِهة نحوَ خطِّ سوق الجُملة، البعيد عنِ المكان بكيلومترين؛ ليشتريَ قنيناتِ عطْر، يَبيعها قُرْب مسجدِ حيِّهم لِزَبائنِه المعهودين مِن الكُرماءِ والمحسنين، يقصدون بشرائِها مُساعدته وتشجيعَه؛ لأنَّهم يَعرفون وضع أُسرتِه الماديَّة وحالتهم الاستثنائيَّة.

فيربَح مِن مبيعاتِه دُريهمات يُنفِق بها على أُسرتِه الكبيرةِ المتآلِفة، والمُكَوَّنة من تِسعة أفراد، فضلاً عن جَدِّه وجَدِّته، ويسكنون بيتًا مهترئةً جُدرانُه، متداعيةً أركانُه، يَكترونه بـ30 درهمًا للشهر، ومالك البيتِ يُقاضيهم في المحكمة يُطالبهم بالإفراغ.
والشابّ -كما يعلم جميع سكَّان حيِّنا الصفيحي- حاصلٌ على الدكتوراه في الأدب الحديث.
وكان يُساعِدنا في تحضيرِ دُروسنا، ولا يَبخل علينا بما آتاه الله مِن الفَهم والعِلم، في مجالِ تخصُصه، وفي موادَّ أخرى، فالأخ -ما شاء الله! واسعُ الاطِّلاع.

يَفهَمُ في كلِّ شيءٍ -كما يقول- إلاَّ في السياسة، فإنَّه يكرهها.
وبدأ كُرهُه للسياسة يتشكَّل في سنِّ الطفولة عندَما أخبرته أمه أنَّ أخًا له تَوْءمًا قد قضَى نحبَه في مستوصف الحيِّ عندما لم يَتلقَّ العناية اللازمة، ولقِي مِن التفريط ما لَقِيه نَتيجةَ غيابِ التجهيزاتِ الضروريَّة والأدوات الطبيَّة!
 وقدْ كنَّا أيَّام الانتخابات السياسية، ننشط ونفرح، نعمل في الدعاية الانتخابيَّة بمقابل:
(مادي وبطني)!
أمَّا هو فقدْ كان يرفُض مشاركتَنا رغمَ أنَّه في حاجةٍ ماسَّة إلى دِرهم واحد!
ولَمَّا بلغْنا سِنَّ التصويتِ كنَّا نصوِّت لصالِح أفراد، مقابل 20 درهمًا، وكان يرفُض أن يُشارِكَنا. كان يقول: أنا لستُ غبيًّا.
وكنَّا نحضُر حفلاتِ نجاح بعضِ المرشَّحين، نأكُل ونشرَب ونلْعَب، ولم يكن يحضُر معنا.

تأخَّرتِ الحافلةُ عن موعدها، كما هو دأبها، ولم يملَّ الشابّ ولم يظهرْ عليه العياءُ، رغمَ طولِ مُدَّة الانتظار؛ لأنَّه قد ألِف الألَم والانتظار منذُ نعومة أظافره.
فنُدوب في جِسمه كالأطلالِ شاهدةٌ على الحِرمان، وعلاماتٌ في رأسه كالحُفر تؤرِّخ لسنِّ الشَّغَب والهذيان، أنضجتْه التجارِبُ حتى كاد يحترِق.
ولقدِ انتظر العملَ مُدَّة 10 سنوات، ولم يصلْه حقّه في العملِ بعدُ.

- وانتظر وُعودًا ووعودًا.
- وما زال ينتظِر.
- ولم يملَّ الانتظار.
- بقدرِ ما لم يستحِ المسؤولون.
وفجأةً قدمتِ الحافلة ممتلئةً عن آخِرِها، متمايلةً متهالكة، فتدافَع الناسُ وتدافعوا؛ ليظفروا بفراغٍ أو شبهه فيه يقِفون.
لكن الشابَّ لم يتحرَّك مِن مكانه، وكأنَّه مربوط باللوحة الإشهاريَّة مشدود إليها شدًّا.
- وكنتُ أجِد في وجهِه ابتسامةً مضمرة مشوبةً بحرقة عميقة وألَم ٍدَفين.

وبعدَ مُدَّةٍ ناهزتْ نصفَ ساعة ودقيقتين تقريبًا، قدمتْ حافلةٌ أخرى، معروفة بيْن الناس بالمقاتِلة، من شدة قِدمها، فتقاذف الناس فيها يتدافَعون يَتصارَعون.
فتحلَّحل الشابُ من مكانِه تحلّحلَ العقلاء، وسرعانَ ما عاد ليلتصقَ باللوحة الإشهاريَّة؛ لما رأى مِن التناطُح ما رَأَى، وسَمِع مِن الفُحش ما سَمِع.
وجدتُ الشابَّ ينظُر إلى اللوحةِ الإشهاريَّة، يقرأ ما كُتِب عليها مركِّزًا ومتأمِّلاً، وكأنَّه يخاطبها، أو هي تخاطبه!

- سلمتُ عليه.
- فردَّ عليَّ السلام.
- ذكَّرتُه بنفسي.
- فتذكَّرني.
وذكَّرني بأحداثٍ كثيرةٍ لم أذكُرْها؛ إذ هو يَكبُرني بتِسع سنوات!
- قلت له: كيفَ حالك يا سعيدُ؟
- قال:
الحالُ وَصْفٌ فَضْلةٌ مُنتصِبُ  
مُفْهِمُ في حالٍ كَفَرْدًا أذْهَبُ 
فالبشَر في هذه البلاد، فضلةٌ، الأصلُ فيهم أن يَعيشوا حياة النَّصَبِ والشقاء والحِرمان، يَتعرَّضون للنَّصْبِ والاحتيال، وحالهم لا يُرضِي، ولا يُبشِّر بخير.
• وهل تجد أكبر من هذه الإهانة؛ أن يحشرَ البَشَرُ في مثل هذه الحافلات المهترِئة؟

• وهل هناك أكبرُ مِن هذه الإهانةِ؛ أن أنتظِرَ أكثرَ مِن ساعة لأركبَ تلك التي تُسمِّى المقاتلة؟!
• ألستَ ترىَ معي أنَّ هذا مقصود ومخطَّط له؛ كي يعيشَ المواطنون في جحيمِ الدنيا يَتصارَعون، وعلى الفُتات يتقاتلون؟!
أمَّا إذا زعمتَ أنه غيرُ مخطَّط له، فلماذا لم يُصلحوا الوضع؟!
ثم إنِّي لا أحبّ الحديثَ في السياسة؛ لأنَّها سببُ شقائِي وتَعاستي، فقد استبطنت عنها صورة سيِّئة، لم أستطعِ التخلّصَ منها.
قلت: لقدِ اقتحمتُ مجالَ السياسية من بابِه الواسع، فأنا سياسيٌّ بامتياز.

قال: ابتعد عنِّي، لا تُكلِّمني؛ إنِّي لا أحبُ السياسة، أكْرَه الكذبَ والخِداع.
ثم انطلق يَجْري طورًا، ويُهروِل أخرى.
يردِّد: أنا أكْرَه الساسةَ والسياسةَ.
فالتفتّ إلى اللوحةِ الإشهاريَّة العملاقة، التي كان يَتَّكِئ عليها يتفرَّسها بعينيه، فأدركتُ سرًّا مِن أسرارِ كُره المواطنين للسياسة.

وعذرتُ الرجلَ على ما صَدرَ منه، وأخذتُ العهدةَ على نَفْسي أن أترُكَ السياسةَ وأقدِّم استقالتي مِن منصبي، إلى أن يَنصلِح حالُ هؤلاء.
“لقدْ تضمَّنتِ اللوحةُ الإشهاريَّة صورةً لسكنٍ فخم، مؤثَّث بأرفعِ الأثاث، يَسكُنه قومٌ، يظْهَر أنَّهم مِن البشر الممتازين، وعلى مقربةٍ مِن البيت العظيمِ سيَّارة مِن سيارات الدَّفْع الرباعي، يطلُّ منها شابٌّ وسيمٌ؛ أشْقَر شعرُه، قويَّة بنيتُه، جميلةٌ ثيابُه، يقول لسان حاله: كم أنا سعيد؟”.
وبمجرَّدِ ترْكي للسياسة، عِشتُ عيشةً ما ذُقتُ مثلَ حلاوتها قطّ؛ لقد عُوِّضت بخيرٍ كثير، ما كنتُ أتوقَّعه، ولا ذِهني يتخيَّله، مع أنَّ خيالي طويلٌ ذيلُه!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى