الرقصات الشعبية اليمنيّة.. تراثٌ يندثر

> أحمد الأغبري

>
​يمتلك اليمن من الرقصات الشعبية تراثاً زاخراً يتجاوز أربعمائة رقصة لكل منها إيقاعاتها وحركاتها وأزياؤها ومناسباتها، لكنها حتى اليوم لم توثق توثيقاً شاملاً ودقيقاً ولم تلقَ اهتماماً موازياً لقيمتها وأهميتها، وقبل ذلك وبعده بقيت البلاد تفتقر لفرقة وطنية موسيقية أكاديمية تعزف على النوتة، الأمر الذي ضاعف من مهام العاملين على الفنون الشعبية، حتى جاءت الحرب المستعرة هناك منذ أكثر من أربعة أعوام فضاعفت من معاناة الإنسان اليمني بما فيها علاقته بفنونه وتراثه عموماً، وفي المقدمة من ذلك تراث الرقص الشعبي، فتوقف معظم الأعمال الحكومية المتعلقة بالفنون الشعبية، بما فيها تُوقفُ نشاط الراقصين والفرقة الرسمية الراقصة.

يقول الفنان علي المحمدي، مدير عام الفنون الشعبية في وزارة الثقافة بصنعاء رئيس الفرقة الوطنية للرقص الشعبي: «إن الراقص يشبه الرياضي، إذ له عمر فني محدد، وفي حال توقف نشاطه فقد لياقته، وفي حال فقد لياقته فهو يفقد مهارته كراقص، فما بالك عندما أقول لك إن أنشطتنا توقفت تماماً منذ بدء الحرب».

التراث والهوية
التحق الفنان المحمدي بفرق الرقص الشعبي منذ سبعينيات القرن الماضي في مدينة عدن، وتخرج بدرجة الماجستير في فنون (الباليه) في مدينة سان بطرسبرغ الروسية عام 1985، لكنه فضل العودة للعمل في صنعاء، ومن حينها وهو يُسهم هناك في خدمة فنون الرقص كفن تعبيري إنساني خلاق.
«ما زلتُ أتذكر كلمات قالها الفنان الراحل جميل غانم، وهو من أقدم العازفين اليمنيين، ومن مؤسسي أول فرقة موسيقية في عدن، مؤكداً خلالها أن لكل شعب تراثه الخاص، ونحن في اليمن نمتلك تراثاً زاخراً من الفنون الشعبية، ونستطيع من خلال هذا التراث أن نقدّم للعالم عملاً فريداً ومبهجاً، فلا فرصة لنا إلا بفنوننا»، يقول علي المحمدي لـ«القدس العربي».

البداية
كانت مدينة عدن نقطة البداية اليمنيّة مع الاهتمام بفنون الرقص، وتحديداً منذ سبعينيات القرن الماضي، حيث استقدمت وزارة الثقافة حينها خبراء روس عملوا على تأسيس أول فرقة للفنون الشعبية عام 1974، وتم اختيارهم من طلاب المدارس، ومن ثم ابتعاث عدد منهم إلى روسيا للدراسة، والذين عادوا وشكلوا الجيل الأول من الراقصين المحترفين. تلتها صنعاء، إلا أن الجهود في صنعاء لم تُسفر عن تُشكّل فرق رقص مكتملة من الجنسين، وبسبب يمكن أن نطلق عليه (التزُمّت الديني) لم تكن الفنون في شمال اليمن قبل الوحدة بالمستوى الذي كانت عليه في الجنوب، وخاصة على صعيد تمكين العنصر النسائي من المشاركة. كما بقيت الرقصات التي تُؤدى محدودة وانحسرت، كما يقول المحمدي، في سبع رقصات تقريباً بما فيها رقصة البَرَع (رقصة حربية تؤدى بشكل دائري على إيقاعات طبلين متعارف عليها في مناطق يمنيّة مختلفة) حتى إعادة تحقيق الوحدة اليمنية عام 1990 وقيام الجمهورية اليمنية، والتي كان يفترض أن تكون فاتحة خير للبلد أو هكذا اعتقد المتابعون، من خلال ما أتاحته من فرصة لاستثمار خبرات الشطرين، حيث كان هناك في جنوب البلاد عدد كبير من فرق الفنون الشعبية، وفي حال تم استغلالها جيداً كانت أسهمت في تطوير واقع الرقص الشعبي في الجمهورية الوليدة، وهو ما حصل بالفعل، حيث شهدت البلاد انفتاحاً في السنوات الأولى للوحدة وشهدت الفنون انتعاشاً ملحوظاً، إلى أن اندلعت حرب صيف 1994، التي أدت إلى واقع جديد اختفت فيه كل فرق الرقص الشعبي الجنوبية، وأسهم في تجاهل وتهميش كل الفنون بما فيها الشعبية.

ويشير المحمدي إلى أن ذلك حصل على الرغم من أن الرقصات الشعبية اليمنية عموماً هي محافظة في تفاصيلها وحركاتها وأزياء راقصيها أيضاً.

جيل واحد
عقب ذلك استمرت جهود العمل الحكومي تجري موسمياً وفق إمكانات بسيطة بعد اختفاء معظم الفرق، إن لم نقل جميعها، التي كانت في الجنوب، إلى أن انحسر الأمر في فرقة وطنية كسيحة في صنعاء وبعض الفرق في مكاتب وزارة الثقافة في المحافظات، وجميعها انحسرت في جيل واحد اختفى أعضاؤها مع تقدم العمر دون ضخ دماء جديدة، إلى أن تقلد خالد الرويشان وزارة الثقافة منذ عام 2003. يقول المحمدي: «تقدمنا له بطلب إنقاذ الفرقة الوطنية، حيث لم يعد فيها عازفون وراقصون بعد أن تقدم العمر بالكثير منهم، وطلبنا توظيف عدد من الشباب، وتمت الموافقة على توظيف 17 شاباً بين راقص وعازف، وبالفعل تم استكمال توظيفهم، وعملنا على تدريبهم وواجهنا مشاكل كثيرة وخاصة مع الراقصين، لاسيما وهم غير دارسين، وعلاوة على ذلك يتطلب الرقص أن يمارسه الراقص على الأقل ثلاثة أيام في الأسبوع. وعلى الرغم من الصعوبات التي اعترضتنا إلا أننا استطعنا بهؤلاء الراقصين مواجهة بعض القصور وأحيينا المناسبات وشاركنا في المهرجانات، إلى أن اندلعت الحرب الراهنة، وبدأت مشكلة انقطاع صرف الرواتب؛ وبالتالي انقطاع الراقصين عن الاستمرار في العمل هنا، وتوقفت كل أنشطة الرقص الشعبي بشكل عام».

الحرب
وأضاف: «لدينا فرقة متواضعة، لكن لا يوجد لدينا نشاط للسنة الخامسة على التوالي منذ بدء الحرب. وعلى الرغم من ذلك ألتقي بالراقصين وأحاول أوضح لهم أن للراقص سن محدد، وعليه أن يعطي وقتاً أسبوعياً للياقته وإلا سيخسر مهارته، لكن دون جدوى، وها نحن بدون أي نشاط».
يمتلك اليمن تراثاً زاخراً من الفنون الشعبية، وفي مقدمتها الرقصات، ويمكن القول، وفق المحمدي، «إن تراث اليمن من الرقصات الشعبية يتجاوز (400) رقصة وربما أكثر، حيث لا تخلو منطقة من مناطق اليمن من وجود أكثر من رقصة لأكثر من مناسبة، ولكل رقصة إيقاعها وزيها ولهجتها وحركاتها ومناسبتها وغيرها من أشكال التميّز التي تتنوع من منطقة إلى أخرى».

التوثيق
لكن من أهم مشاكل التراث الشعبي في اليمن أنه لم يُوَثّق، ولا توجد عنه مراجع يمكن العودة إليها بما فيها تراث الرقصات الشعبية، ما يُشكّل تهديداً لهذا التراث، وانطلاقاً من وعيه بهذا الواقع أسهم المحمدي في تسجيل خطوة في هذا المجال لعله يفتح الباب لدارسين آخرين، فأنجز بجهود ذاتية مع ياسمين الشلال كتاباً حول «الرقصات الشعبية في اليمن» الصادر قبل عامين، وتم خلاله توثيق 37 رقصة شعبية في 15 محافظة، وهو توثيق يشمل التسمية وتوصيف الأداء والحركات والأزياء وتدوين النوتة التي توثق الجُمل الموسيقية والإيقاعية لكل رقصة. ويعتبرُ المحمدي هذا الكتاب «نقطة في بحر» لكنه يُعرّف القارئ بأهمية الفنون الشعبية اليمنية العريقة وأنماطها، لاسيما وهذه أول محاولة توثيقية مصورة في هذا المجال، على حد تعبيره.

مما سبق يتضح مدى معاناة التراث اليمنيّ، فهو مكلوم من أبنائه الذين لم يمنحوه اهتماماً كافياً في أوقات السلم جراء سيطرة التفكير الديني المتزمت على سلطة صناعة القرار. وها هي الحرب تمثل تهديداً أكبر لجغرافية وتاريخ وثقافة وهُوية اليمن، ولا تمثل مخاطرها على تراث الفنون الشعبية سوى دليل واحد على فداحة الجريمة التي ترتكبها الحرب بحق تراث وثقافة هذا البلد العريق.
واستطاعت فرق الفنون الشعبية، التي توقف نشاطها في معظم اليمن جراء الحرب، وأن تسهم في الحفاظ على بعض تراث الرقصات الشعبية كما أسهمت في التعريف من خلالها بثقافة وتراث بلدها في المهرجانات الخارجية، كما عكست داخلياً أهمية الحفاظ على هذا التراث، لاسيما في ظل وجود خبرات استطاعت أن تواءم بين فنون الرقص الشعبي التقليدي والمسرحي.

يشار إلى أن تراث الفنون الشعبية اليمنية يزخر بعدد من الرقصات المشهورة أهمها: رقصة البرع الصنعاني، ورقصة الزبيرية في محافظة تعز، والكوكباني في محافظة المحويت، والدُحيف في محافظة أبين، ورقصة البيضاني في محافظة البيضاء، والليوا في محافظة عدن، ورقصة الشرح من محافظة لحج، والنسر في محافظة صعدة.. وغيرها الكثير من الرقصات المنتشرة في كل مناطق البلاد.
«القدس العربي»

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى