احتلال "قصة قصيرة"

> د. شادن شاهين

> عندما كنت أحضرُ حفلاتِ الأطفال مع والدي، كنت استمتع جداً بمرأى الشخوص الذين يمثلون الشخصيات الكرتونية الشهيرة، ويجسدونها بأزيائها الشهيرة، ويرقصون معنا على إيقاع الموسيقى الصاخبة.
وكان منتهى أحلامي أن أحظى بصورة فوتوغرافية معهم، فهم أسعد مَن على الأرض بالتأكيد، تجسد فيهم كل مرح وشهرة وشعبية، تلك الشخصيات، تملأ وجوهَهم ابتسامة كبيرة لا تمل الاتساع، ربما لأنها محفورة على القناع حفراً، لا يهم، المهم أنهم لا يملون الابتسام.

ها هي أنغام الموسيقى تتصاعد في أرجاء المكان، دقت ساعة العمل، ارتديتُ بدلتي الثقيلة جداً، وأدخلتُ رأسي البائس في تلك الرأس الصوفية الضخمة التي تشبه ذلك الميكي المقيت، وبدأتُ عملي فوراً بالتقافز كأخرق بين الأطفال، والإمساك بأيديهم معبراً عن السعادة بحركات جسدي المضحكة، مرهق أنا جداً، يفتُّ المرض في أجزائي، لكن عليَّ أن أقفز وأدور رغم كل شيء، لابد أن تصم آذاني الحساسةَ ضحكاتُ الأطفال البلهاء، تلك الضحكات التي لا تفقه شيئاً عن دمعاتي وآلامي، ولا تراني أبداً أو تشعر بوجودي، لا ترى سوى ذلك الوجه اللعين الذي أتقاضي أجري كي أبيعه ذاتي.
حتى اسمي، مضت سنوات لم أعد أسمعه، فقد صرتُ هذا "الميكي" رغم أنفي.

ها هي الموسيقي تتسارع، آه، قدماي لم تعودا قادرتين على حملي، لا بأس، حزينٌ أنا منذ اضطررتُ إلى النهوض من مقعد الطفل المتفرج، للوقوف على خشبة المسرح في مطلع الشباب، لأخلق العرض، وأرسم الضحكات على وجوه الأطفال، بينما عيناي جامدتان كثقبين أسودين خلف القناع، تلوح فيهما أشباح العوز والضيق والحزن.
لم أكن أفهم في طفولتي أن ذلك الوجه المشوه سيضطر للهرب يوماً من الآخرين، ويبحث عن عمل يخفيه وراء قناع ما.

انتهى العرض، ومضى الأطفال كلٌّ في طريقه، حاملين صورهم معي، أو قل معه، ذلك الذي محاني من الخارطة، واحتل مكاني في الحياة. عدتُ إلى بيتي، بوجهي الحقيقي، الذي كدت أنسى ملامحه، ذلك الوجه الجامد المشوه الذي يكره الابتسام، ويبغض الضحك.. والرقص.. والموسيقى.. والألوان، بل يزيح من طريقه كل ما يحمل ألوانا مبهجة، ويتمنى لو يستطيع أن يلون العالم بالأبيض والأسود، ويسكت كل ضوضاء الاحتفالات!
وجهٌ لا يفعل شيئاً، سوى أن يجلس القرفصاء في ركن مظلم ببيته كتمثال، يحدق في الفراغ، ينتظر قلباً مختلفاً يأتي من عالم آخر، ليرنو إليه برضا، دون أن يضحك، أو يبكي شفقةً! قلباً يراه هو، فقط، يراه.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى