"حكاوي راحلين".. الأصالة والحداثة والرقي الفني الجميل

> مختار مقطري

> نحن في الدنيا مجرد زائرين".. معنى جميل فيه مسحة من حكمة ومسحة دينيّة، وصار من النادر أن تجد مثل هذه المعاني في الأغنية العربية، مثل: "قد خلقنا الله من ماء وطين".

ومثل: "أنا وقلبي في زمان العابثين"، وغيره، بل إن قصيدة "حكاوي راحلين" للشاعر الغنائي الكبير صالح باظفاري، تنقلك إلى زمن الغناء العربي الأصيل والقصيدة الفصيحة، رغم كونها تحسب من الشعر العامي أو الشعبي أو النبطي لا أدري ماذا أسميها، لكن ميزة الباظفاري أنه يجعل قصيدته أقرب للقصيدة الفصيحة بمفرداتها الأقرب للفصحى، بل هي منها، ومعانيه الوقورة التي تجدها في قصائد الشعر العربي الفصيح لشعراء العصر الكلاسيكي الحديث في شكله العمودي، مثل شوقي وحافظ، حيث المعنى الجزيل والمفردة الأكثر شاعرية وحداثة، ولذلك غنت أم كلثوم من شعر شوقي وحافظ.

ويأتينا اليوم من يقول إن مرحلة القصيدة الكلاسيكية قد انتهت من تاريخ الغناء العربي، مؤيداً لأغنية اليوم الهابطة، كلماتٍ ولحناً وأداءً، بل صارت عاجزة عن أن تؤكد للجمهور أنهم يسمعون أغنية، فأحلّت المشاهدة محل الغناء.
والباظفاري كشاعر كبير، من بلاد الشعر حضرموت، يمسك العصا من المنتصف، فهو يقدم القصيدة العمودية التقليدية، شكلاً ومضموناً، بنكهة ومفردات عامية، مع المحافظة على قوة ورصانة المعنى، وأصالة المفردة وإجادة توظيفها.

وقد فطن الملحن الفنان القدير فهد الناصر، من الكويت، إلى ما في القصيدة من أصالة في الشكل والمضمون، فنأى عن الإيقاع السريع الراقص، وهذه ميزته كموسيقار قدير إلا ما كان توظيفاً فنياً، فجعله إيقاعاً مرحاً، لا للترقيص، وخلفية للجمل اللحنية البديعة والوقورة والمتسمة بأصالة التلحين العربي الأصيل، دون إسفاف أو ميوعة أو إزعاج، لما في القصيدة من معان إنسانية ودينية لها مسحة من حكمة، فكان الملحن فهد الناصر مع براعة الموزع الموسيقي الفنان علي عبد الرضا، من الكويت، بارعاً وموفقاً في صياغة لحن جميل وأصيل وراقٍ، يصل إلى مستوى القصيدة، وكان الموزع، رغم توظيف آلات موسيقية حديثة، بعيداً عن البهرجة السطحية التي تعودنا عليها، والتي تحول دون امتزاج اللحن بالقصيدة، أي الموسيقى بالشعر، لخلق حالة من الإبداع الفني. كما امتزجا في أغنية "حكاوي راحلين". وما أجمل وأعذب توظيف آلة (الساكس) وهو يترنم بجملة موسيقية عذب ومقروءة، تلامس الذائقة الوجدانية، وتبني عليها صوراً صوتية رخيمة، وما أجمل الترنم بمفردة (لا)! وتلك الهمهمات، من قبل الكورال الموحية بالرقي والجلال في مضامين القصيدة، حتى في حالات الحب والتأمل في الحياة والتفكر في الدنيا.

وكان المطرب الشاب الفنان الكويتي فواز الرجيب، جريئاً في غناء قصيدة "حكاوي راحلين" للشاعر الغنائي الكبير صالح باظفاري، فهو مطرب شاب، لكن إحساسه الفني والأدبي بقدسية الغناء والموسيقى ورسالتهما الأدبية والفنية الإنسانية الخالدة، في تهذيب المشاعر وتهذيب الوجدان والارتقاء بالذائقة الجمعية، ثم إحساسه العميق بجمال معاني القصيدة وموسيقاها الشعرية الجميلة، غلبا عليه، وهكذا ينبغي أن يكون فنانونا الشبان.

ولا شك أن اللحن الجميل والتوزيع المستوعب، قد أسهما في صناعة أغنية جميلة، لكن لا غنى للصوت عن اكتمال صناعة الأغنية الجميلة التي تعيش طويلاً، وأول ما يسترعي الانتباه هو الأداء الشاعري للرجيب الغارق في الذوبان والاستغراق في الغناء حد الامتزاج بين جمال الصوت العذب وحساسيته وبراعة الأداء، وبين جمال اللحن والتوزيع، والجمال في القصيدة والرقي الإنساني في معانيها، مستعرضاً في القفلات بعض الجماليات في (القفلة التطريبية) وقدراته الصوتية.

إن فواز الرجيب بهذا الأداء الراقي والإحساس الفني للقصيدة ولحنها الجميل، رغم صعوبتها، يؤكد أن الأغنية العربية الجميلة، والتي تعيش طويلاً، لا تزال موجودة، وأن الغناء العربي الأصيل لا يزال بخير.

وفي الساحة الغنائية العربية اليوم، نحن بحاجة لمثل هذا العمل الفني الجميل "حكاوي الراحلين"، ذي النص الشعري الغنائي البديع، بما فيه من مضامين أدبية وإنسانية راقية، وذي التلحين ذي الاشتغال الواعي لمعاني النص وكيفية ترجمتها موسيقياً، بمنأى عن الإسفاف واللافن، ثم يأتي الصوت الجميل المستوعب لجمال النص وجمال اللحن وما فيهما من قيم إنسانية وأدبية وفنية، ويحمل على عاتق صوته وأحاسيسه توصيل هذا الكنز الفني للجمهور، لنصفي آذان الأجيال الجديدة من سموم الأغنية الهابطة والمسفهة والمبتذلة.

حكاوي راحلين
لا تجعل الماضي حكاوي راحلين
لا ذكرناهم يخاوينا البكاء
وأدري أن القلب يضعفه الحنين

والحنين آهات يصنعها الجفاء
غصب تتعبنا تواريخ السنين
وتحمّل الذكرى تضاريس العناء

أنا وقلبي في زمان العابثين
بالمشاعر بعد ما ضاع الوفاء
نحن في الدنيا مجرد زائرين

وأفئدة أرواحنا تهوى الفناء
قد خلقنا الله من ماءِ وطين
ما لنا في هذا العالم بقاء

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى