قداسة عدن وندم التائبين

>
قوة الجنوب عدن. وعدن هي رمزية وقداسة البيت للأسرة الواحدة لأبناء الجنوب جميعاً على اختلاف ألوانهم وتوجهاتهم ككل، وهي معبد الحب والوئام والألفة لهم، الذي لطالما اختلفوا حولها كثيراً وساد الخصام والقطيعة بعد الضرر. يعود أولئك للتباكي ندماً على ما صار وما جرى بينهم، يحاولون تضميد وجبر كسر بعضهم، متسامين على كل غبن وفوق كل جراح، وما علق على القلوب من أحقاد وضغائن، ولأنها الوحي المتشرّب في النفوس، هي أيضاً القاسم المشترك التي تروض توحش شذوذهم بفتنتها وجمالها الأخّاذ، ولأنها الروح الخفيفة المرحة الرحيمة ذات الصدر الرحب، والتي دائماً ما يشعُ ثغرها سلاماً من بين سراديب الظلام، وهي هدية من المولى عزَ وجل، تعصر ضوءها وسناها مجاديف سفينة النجاة للجميع، تؤلف وتصنع بحنانها نوراً يضفي على كل من حولها من شواطئها، من رملها، من زبد بحرها تسكرهم بمشاعر روحانيتها لهيباً وشوقاً وحلة للضوء المتدلي من وهج الشمس في كبد السماء، يرتسم تحت سقفها ومن لفح حرقتها رحلة معاناة طويلة لشعب ينتضي ويمتشق سيفهُ كي يذود عن حياض وطنه ليضرب مراراً فتطيش بعض من ضرباته وهو غير منتبه لها، وعند نهاية كل نزال يكتشف أن القتيل ليس عدوه المفترض، بل ما يتمثله أخوهُ.

عدن هي حاضرتنا وأمٌ يحاصرنا حبها من كل جانب، فلطالما اختلفنا وتنازعنا حول رضاعة ثديِها متسببين لها بالمتاعب وعليه من الكدمات والجروح، ولكننا برغم ذلك تبقى معلقة بنا ونحن معلقون بها وإلى الأبد، وهي المسكينة الحنونة الرؤوم المسكونة بالألم والحنين عاكفة تضمد جراحها وتشدّنا إليها ملهوفة بقوة عطفها لتضُمّنا بدفء حضنها خوفاً علينا من غياهب التفرق والضياع، محافظة ومداومة في عطائها لكل ما يمنحنا مشاعر الطمأنينة لاستمرارية مقاومة الآخرين الحاقدين والذات، تعمل لما من أجله يجدد النشاط فينا، يطرد مشاعر البخل والكسل منّا والإحباط، كي تظل واجهة وزهرة ندية لكل من يراها، وكي تبقى في ضمائرنا تبادلنا وتمنحنا الهداية ونمنحها الحياة.

عدن. نقتلها مراراً وتكراراً فتساق إلينا من وحي الغياب، تسافر لتصعد في دمائنا معصوبة العينين، متساقطة الأوراق كشجرة أتى عليها فصل خريفٍ قاسٍ سادَ على كل الفصول، تبعث من مرقدها، وككل مرة نزفها من جديد مهللين مكبرين فرحين بها، على نغم إيقاع المدافع وصوت البنادق وأزيز الطائرات، لتقتل مرة أخرى، وبين عينيها يرتسم ويتكون ألف سؤال وسؤال، تنقصه الإجابة..

وبعد ذلك سنين وعلى طول صبرها تُقبل علينا شابة على هيئة عجوز شمطاء، تصنع من لفائف أحزانها وكبريائها بيارق للقادمين وألق للمفتونين بعشقها وحبها، غير يائسة. وهم ينسالون تجاهها تائهين حيارى يطلبون الصفح  والسماح منها ويلتمسون العذر لما بدا منهم، يقبلون من كل حدبٍ وصوب، من الصحاري، ومن الجبال والسهول، من التلال وقرب الجداول والغيول، والمزارع والمصانع، يقبلون عند أقدامها برهبانية وصمت، يمسحون على شعرها المنكوش متبركين ببركاتها، يحاولون تخفيف مصيبتها ومصيبتهم أوجاعها وأوجاعهم. وكثيراً منهم قد أخطأ ويخطئ في الطريق ولكنه في الأخير سيهتدي وحتماً يصل، ويلتحق بركب الواصلين، ويبكي يوم وصوله، يبكي على عقر دارها دموعاً ودماً وسيخلد التاريخ بُكاءه.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى