تقرير مصير الجنوب.. تحديات خارجية وداخلية

> د. هيفاء المعشي

> في واقعنا اليوم بكل ما يحتويه من تناقضات سياسية تقودها قوى عظمى فإن تحليل الواقع السياسي والخروج بنتائج دقيقة يعد أمراً في غاية الصعوبة، حيث غلب على دول محورية مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة غموض سياسي وغياب للهوية السياسية في السنوات الأخيرة، وهذا ما يتضح في رئاسة دونالد ترامب المهزوزة وتخبط ديناصورات الديمقراطية في بريطانيا في إطار أزمة البريكست لدرجة قادت إلى تجميد عمل البرلمان واهتزاز الأدوار الحزبية لأحزاب متمرسة مثل حزب المحافظين وحزب العمال. لذا فإن رمي أزمة الحرب في اليمن في سلة المهملات التابعة للدول الكبرى لن يقود إلى إعادة تدويرها بشكل صحيح، وإنما سيقود بالتأكيد إلى تفاقم روائحها المتعفنة لتشمل أطراف عديدة في المنطقة. وهذا ما اتضح تماماً في معالجة قضية الجنوب، حيث غلب على جميع الأطراف توجه لتأجيلها حتى يتم التخلص من التغلغل الحوثي وتحرير صنعاء، وهو طرح خاطئ ساهم في تصعيد الأزمة واستمرار الحرب بدون بوادر فوز أو خسارة لأي طرف من الأطراف سواء المحلية أو الخارجية.

إن استيعاب مشكلة الجنوب من قبل مواطنيه والعمل من خلال خطوات بسيطة ومتدرجة وعفوية أحياناً هي السبيل الوحيد للخلاص من ديكتاتورية نظام سياسي غير عادل لم ينتهِ بتفكك حزب المؤتمر الشعبي العام وموت زعيمه، وإنما استمر على نفس المسار المستبد بسيطرة حلفاء المؤتمر السابقين حزب الإصلاح وقيادات كانت حليفة لعلي عبدالله صالح طوال عقود من الزمن تجاوزت العشرين عاماً، وعلى رأسهم الرئيس هادي الذي هو أساساً فاقد للشرعية، لكونه غير منتخب وإنما معين وفق انتخابات غير شرعية ومزيفة.

إن إعطاء القيادة لغير المؤهلين لها لابد وأن يقود في النهاية إلى نتائج غير عادلة وإلى مزيد من الاستبداد والفساد السياسي الذي أدى إلى فشل الدولة، على الرغم من الادعاء بشرعيتها. والاستمرار على ذات النهج لن يمنح شعب الجنوب العربي حريته وسيادته على أرضه ولن يرجع حقوقه المغتصبة. لذا فإن من حق الجنوبيين أن يثوروا على هذا الاستبداد وهو حق منطقي وعادل ويحقق مفهوم الحرية السياسية وفق الأطر الديمقراطية المتعارف عليها في ضمان حقوق الشعب دون التعرض بالضرر للآخرين.

وفي واقعنا اليوم، وتحديداً في منطقة الشرق الأوسط، فإن الحروب قد لا تنتهي بفوز أو خسارة ولكنها قد تعكس نسب معينة من الانتصارات والخسائر وعلى فترات زمنية مختلفة سواء على المدى الزمني القصير أو على المدى الزمني الطويل لكون عملية الاستقرار السياسي أضحت للأسف غير واضحة مع تعدد التحالفات وتشتت الولاءات والإدارة الفاشلة للمجتمع الدولي للملفات الشرق أوسطية. لذا فإن من يكسب المعركة اليوم قد يخسرها على المدى الطويل، ومن يخسرها اليوم قد يكسبها مستقبلاً. وهذا ما عكسته انتفاضات الشرق الأوسط في مرحلة ما عُرف بالربيع العربي، حيث غابت إحصائيات سياسية حقيقية حتى هذه اللحظة لمعرفة المنتصر من الخاسر في ظل استمرار التخلخلات السياسية واستمرار حالة الغليان الشعبي كنتيجة حتمية لعمليات الفساد والمحسوبية وسيطرة القيادة الواحدة.

كما إن تجدد أجواء التوتر في الدائرة الخليجية التي تربط اليمن بإيران بدول الخليج العربي تعكس خطاً بيانياً يتصاعد بشكل مخيف أحياناً، وينذر بحرب كبرى ثم يهبط فجأة ليعاود الصعود من جديد ويتجدد الصعود والهبوط وبشكل متسارع، بحيث يصعب على المحللين السياسيين وضع تنبؤاتهم حتى على المدى الزمني القصير وهو يعكس أزمة خانقة من التفاعلات السياسية تشهدها المنطقة وتدفع بجميع الدول في نطاق تلك الدائرة لتوخي الحذر وتوقع اللامتوقع، خصوصاً من أطراف ثائرة سياسياً مثل إيران وميليشيات متطرفة دينياً وسياسياً مثل الحوثيين. وهذا ما يتضح يومياً مع توالي موجات العداء السياسي والإعلامي بين إيران والولايات المتحدة وربطه بشكل مباشر بعلاقات التبعية السياسية والعقائدية ما بين الحوثيين وإيران والأضرار الناتجة على الملاحة الدولية وتجارة النفط العالمية التي وصلت إلى حدود تهديد البنية الاقتصادية السعودية في جوهرة اقتصادها أرامكو. ولكن ذلك لا يعني أن تتوقف عجلة الحياة أو تتجمد الأهداف سواء للمتضررين أو غيرهم، لأن الرؤية الكاملة لهذا الكم الهائل من التداعيات تؤكد أن تجاهل بعض القضايا المحورية أو إهمال التفاصيل هو ما قاد أساساً إلى تفاقم الأوضاع واستمرار الحرب داخل اليمن.

إن الجرأة التي تحلى بها الشعب الجنوبي من خلال قيادة المجلس الانتقالي الجنوبي في تحريك الأوضاع لحل قضيته المرهونة هي خطوة تستحق الاحترام والدعم، سواء من الجنوبيين أنفسهم في جميع المحافظات الجنوبية وليس داخل عدن ومحيطها فقط، أو من الدول المجاورة والمجتمع الدولي لأنها لا تستهدف مصلحة خاصة ولا تقسيم أموال وتوزيع تركة ولكنها تطالب بدولة مسلوبة ومنهوبة، وهو حق شرعي تكفله الشرائع الدولية من خلال حق تقرير المصير الذي برز في التاريخ السياسي في ستينيات القرن الثامن عشر كأداة سلمية في الأساس تعطي للشعوب حقها في تقرير مصيرها السياسي ووفق هذا المبدأ فإنه: "يجب احترام الطموحات الوطنية فلا يمكن السيطرة على الشعوب وحكمهم إلا بموافقتهم". والمبدأ لا يموت بموت داعميه ولكنه يظل نبراساً لكل من يتطلع للحرية والكرامة. ومع عودة الحراك الشعبي في مواقع عديدة في منطقة الشرق الأوسط لابد من الاستلهام من التجارب السابقة والإيمان بوعي الشعوب وقدرتها على إحداث تغييرات في الواقع السياسي، خصوصاً إذا ما كان هذا الواقع متجذراً في الفساد السياسي والمالي مما يدفع بقوة نحو عدم الاستقرار في المنطقة.

إن تقرير الشعوب لمصيرها بشكل حقيقي وعادل لا يأتي من الخارج وإنما يقرره أصحاب الأرض، وهذا ما قرره شعب الجنوب العربي بعيداً عن الأجندات السياسية التي تصيغها أطراف داخلية وخارجية والتي قد لا تتوافق في أحيان كثيرة مع مصلحة الشعب صاحب الأرض. والدعم العسكري والمادي الذي قدمته دول التحالف العربي لا يعطي الحق كاملاً سواء للمملكة العربية السعودية أو للإمارات العربية المتحدة أن تقرر مصير الشعب الجنوبي أو توجه تحركات قياداته، وهذا ينطلي بشكل أكبر على القوى الكبرى الموجهة للأمور بشكل غير مباشر، سواء عبر ممثليها أو عبر منظمات دولية مثل الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي. وفي نطاق نظرية تقرير المصير، فإن الأساس هو الدافع لدى الشعب نفسه الذي يمنحه الحق في الاختيار دون تدخلات أو تأثيرات خارجية.

إن الحلول الوقتية والمخدرة والتي اتضحت في أكثر من بيان أصدره التحالف، وكما برز تحديداً من التوجّه السياسي والإعلامي داخل الرياض لا تعد الحلول المثلى للقضاء على الغليان الشعبي داخل الجنوب وعلى وضع حلول حقيقية لإنهاء الحرب. كما أنه لا يحق للمجلس الانتقالي الجنوبي أن يوافق على حلول وقتية لإرضاء طرفي التحالف لأن مسألة تحرير الجنوب العربي أضحت حق شعب وليست من حق المجلس وحده. وهذا ليس انتقاصاً من دور المجلس أو إضعافاً لمصداقيته وإنما تعزيزاً لدوره الحالي في تمثيل الشعب الجنوبي من أجل الشعب نفسه.

ولعل أبرز التحديات الداخلية تتمثل في محاولات الطعن المستمرة من داخل المحيط الجنوبي لإضعاف الحركة الشعبية الجنوبية لاستعادة الدولة. وقد غدت تلك المحاولات مكشوفة ليس فقط للنخب المثقفة، وإنما أيضاً لعامة الشعب الذي يملك من الوعي ما يكفي لدعم قضيته وكشف مصداقية القيادات التي تسعى لتحقيق مصالحه. ولا يخفى على الجميع أن هناك محاولات يجرى التخطيط لها في الوقت الحالي داخل محافظة حضرموت سواء من القيادات الممثلة للشرعية أو من العناصر التابعين لها من إعلاميين وتجار ورجال دين لفصل حضرموت عن الهم الجنوبي، وتلك المحاولات للأسف تخدم بشدة أجندة النظام الشمالي ومن يواليه من خلال رؤية قصيرة المدى ومهزوزة لا تحقق مصالح الجنوبيين على المدى الزمني الطويل وهي رؤية تفتقر للحكمة وللمصداقية لأن إخراج حضرموت من دائرة الهم الجنوبي لن تحقق الحماية والأمن للمحافظة على المدى الزمني الطويل، وهذا ما أثبتته العقود الماضية. بل على العكس زُجت محافظة حضرموت في دهاليز العنف والاضطرابات من قبل عناصر جنوبية لكون هؤلاء الأطراف لا يخدمون سوى أجنداتهم الشخصية وهو ما أعطى الفرصة للجماعات الإرهابية أن تتكاثر داخل المحافظة وإلى فتح أبواب فساد مالية وإدارية عديدة في مؤسسات مالية واقتصادية داخل حضرموت.

لذا فإن اللعب على نغمة حضرموت مستقلة، هو لعب خطير لكونه يعكس مطالبة زائفة وغير صادقة فالهدف فعلياً لا يعني استقلال حضرموت مالياً وإدارياً عن بقية المحافظات الجنوبية، وإنما محاولة ملتوية من الشرعية ومن يواليها لمنع حضرموت من الالتحاق بالسرب الجنوبي الحر وتقييدها أسيرة لنزعات النظام الشمالي وداعميه واستمرار استنزافها واستغلالها على جميع الأصعدة.

وتلك الأجندات الفاسدة لسرقة الحق الجنوبي قد يتم تطبيقها في مناطق جنوبية أخرى تحت مزاعم كثيرة. فالمخططات كثيرة ولا تزال تتوالى في الخفاء وفي العلن سواء من قبل أفراد أو من قبل كيانات سياسية، ولكن الارتكاز على مبدأ حق تقرير المصير برضا الشعب ودعمه هو ما سيحقق النصر للجميع وليس للجنوبيين فقط.

من هنا لابد أن يعمل الممثل الحالي لشعب الجنوب العربي المجلس الانتقالي على إشراك الشعب بشكل منظم وتدريجي في العملية السياسية وهذه العملية وإن كانت تمثل صعوبة في بداياتها ولكنها خطوة أولى لتنظيم المشاركة الشعبية ليس فقط عبر المظاهرات والتعبيرات السلمية، وإنما عبر مشاركة سلمية منتظمة تغطي جميع زوايا المجتمع الجنوبي الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية نحو إعادة بناء الدولة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى