اتفاق الرياض ومستقبل جنوب اليمن.. الفرص والتحديات

> منير بن وبر

> على الرغم من أن الهدف الأكبر للمجلس الانتقالي الجنوبي هو استعادة دولة الجنوب العربي؛ فإن الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، قد غرد قبيل الاتفاق، قائلًا إنهم قد عملوا على إعطاء القضية الجنوبية حقها من الرعاية والإنصاف من خلال مخرجات الحوار الوطني عبر الشراكة الحقيقية والتوجه نحو بناء اليمن الاتحادي. كما غرد وزير الخارجية اليمني أيضًا، قائلًا إن توقيع اتفاق الرياض لم يتم لتغيير شكل الدولة، وهو الأمر الذي أكده بالفعل الاتفاق الذي تم توقيعه بحضور أممي وإقليمي ويمني رفيع المستوى، يوم الثلاثاء الخامس من نوفمبر الجاري.

بعد مرات متعددة من التأجيل، وعدد من التسريبات، جاء اتفاق الرياض أخيرًا ليعبر عن رغبة الحكومة اليمنية ودول التحالف العربي والمجلس الانتقالي الجنوبي والمكونات الجنوبية الأخرى، في الحيلولة دون إطالة أمد الصراع، والمشاركة بإيجابية في الوصول إلى تسوية سياسية عادلة في المستقبل؛ وذلك من خلال تقوية الصف ضد الحوثيين وأخذ القضية الجنوبية في الحسبان ووضع أساس واقعي لسلام دائم في البلد الذي تمزقه الحرب منذ خمس سنوات.

تناول الاتفاق ترتيبات سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية، وهي تؤسس في مضمونها مرحلة جديدة يمكنها، إذا طبقت بفعالية، أن تساعد الحكومة اليمنية على القيام بمهامها الأساسية تجاه شعبها، وأن توفر القدر المناسب من الأمن والقوة للتعامل بكفاءة أكبر مع المتمردين الحوثيين والجماعات المتطرفة.

أولًا: الجانب السياسي والاقتصادي
شملت الترتيبات السياسية تشكيل حكومة كفاءات وطنية لا تتعدَّى أربعة وعشرين وزيرًا، يعين الرئيس أعضاءها بالتشاور مع رئيس الوزراء والمكونات السياسية، على أن تكون الحقائب الوزارية مناصفةً بين المحافظات الجنوبية والشمالية. ذلك يعني بوضوح أن الاختيار سيتم بغض النظر عن الانتماء الحزبي للجنوبيين، وبالمثل الشماليين؛ ولكن، من جانب آخر، أوضح الاتفاق أن أعضاء الحكومة يجب أن يكونوا ممن لم ينخرطوا في أعمال قتالية أو تحريضية خلال أحداث عدن وأبين وشبوة، وهو شرط يمكن أن يضمن اختيار شخصيات أكثر استقلالية أو، على الأقل، أكثر اعتدالًا.

من شأن تعيين اثني عشر وزيرًا جنوبيًّا أن يؤثر على وضع السياسة العامة للدولة والمساهمة في صنع القرار؛ فوفقًا للدستور اليمني، فإن الحكومة تتكون من رئيس الوزراء ونوابه والوزراء، وهم يعملون بشكل جماعي لتأدية دور مهم في تحضير وإعداد ووضع السياسة العامة.

لا يمكن الحفاظ على السلطة السياسية لأي نظام من تهديد الحرب الأهلية إلا عندما يكون المجتمع السياسي متفقًا على المبادئ الأساسية للنظام. إن عدم وجود إجماع سياسي في اليمن حول ما هو السلوك السياسي المناسب هو أحد أسباب عدم الاستقرار عمومًا، ويمكن أن يؤدي إلى انهيار النظام في نهاية المطاف. لقد أثبت كثير من التجارب أن تغيير موظفي الحكومة قد يكون وسيلة فعالة لتغيير السياسة الحكومية؛ لذلك يمكن اعتباره من حسن حظ النظام إيجاد قنوات راسخة ومفتوحة للعمل السياسي والاتفاق على إجراءات محددة لتسوية المظالم.

بالإضافة إلى التأثير على وضع السياسات العامة، فإن من مهام مجلس الوزراء أيضًا الموافقة على ترشيح منصب المحافظ المقدم من قبل وزير الإدارة المحلية ليصدر بناء على ذلك قرار جمهوري. وفي هذا الصدد، يمكن القول إن تعيين المحافظين في المحافظات الجنوبية الذي تم الاتفاق على أن يكون خلال ستين يومًا، ما عدا محافظي عدن وأبين والضالع، سيتأثر كثيرًا بالتوجهات الجنوبية، وهو ما يمنح الجنوبيين مزيدًا من الثقة والتأثير السياسي الذي حرموا منه، ويمنح النظام السياسي الإجماع الذي افتقده.

من جانب آخر، يجب التأكيد أن السياسة العامة، والتي سيشترك الجنوبيون أخيرًا في رسمها، تتجسَّد في الدستور والقوانين التشريعية والأحكام القضائية. وهذا يمكن أن يشكل تحديًا لأية حكومة يمنية؛ حيث إن الدستور وكثيرًا من القوانين التشريعية لا يتم العمل بها لسبب أو لآخر. إن عدم التطبيق هذا هو أحد أهم أسباب عدم الاستقرار في اليمن والسخط الشعبي سواء أكان في الشمال أو الجنوب؛ حيث يؤدي عدم تطبيق الدستور والقانون إلى توزيع غير عادِل للثروة واستنزاف الموارد والفساد والاستبداد.

على سبيل المثال، لدى اليمن بالفعل قانون سلطة محلية جدير بالاحترام؛ لكنه لا يطبق. يقوم نظام السطلة المحلية، حسب الدستور اليمني، على مبدأ اللا مركزية الإدارية والمالية، وعلى أساس توسيع المشاركة المحلية في اتخاذ القرار وإدارة الشأن المحلي في مختلف المجالات؛ ومنها المجال الاقتصادي، من خلال المجالس المحلية المنتخبة. ولهذه المجالس سلطات؛ منها اقتراح البرامج والخطط والموازنات الاستثمارية، وكذلك الرقابة الشعبية على الأجهزة التنفيذية ومساءلتها ومحاسبتها. ورغم صدور قانون السلطة المحلية واسع الصلاحيات هذا في عام 2000م؛ فإن المركزية الشديدة بقيت على حالها تقريبًا، كما أدى عدم تخصيص الموارد اللازمة وغياب الرقابة إلى سوء الإدارة وفسادها في مختلف الجوانب؛ بما في ذلك الجانب الاقتصادي الذي يزداد ترديًا. الأوضاع الاقتصادية المتردية هي أحد الأسباب الأخرى لرغبة الجنوبيين في الانفصال.. إن أزمة اقتصادية واحدة يمكنها أن تترك من الأثر ما تتركه كارثة عسكرية، بل ربما أكثر، كما أنها تعمل على تشويه القيادة والنظام الحاليين، وهذا يعني تعبئة السخط الشعبي باستمرار.

ينص الاتفاق أيضًا على صرف الرواتب والمستحقات المالية لمنتسبي جميع القطاعات العسكرية والأمنية والمدنية في الدولة، وهو ما يشكل تحديًا آخر للحكومة. بالطبع، يمكن التغلب على هذا التحدي من خلال تعزيز إيرادات الدولة، وهو ما لم تغفل عنه الاتفاقية أيضًا؛ حيث تم الاتفاق على القيام بما يلزم من إجراءات من أجل جمع وإيداع جميع إيرادات الدولة؛ بما فيها الإيرادات النفطية والضريبية والجمركية في البنك المركزي في عدن، والصرف بموجب الميزانية المعتمدة وفق القانون اليمني.

وهنا يأتي من جديد دور السلطات المحلية؛ سواء أكان على مستوى المحافظات أم المديريات، حيث تقوم السلطات المحلية بأدوار مختلفة؛ منها دراسة ومناقشة الحالة المالية ومستوى تحصيل الإيرادات المحلية والمشتركة من مختلف المصادر والعمل على تنميتها ومعالجة أي قصور إن وجد، وكذلك تشجيع قيام المشروعات الاستثمارية ومعالجة الصعوبات التي تعيق الاستثمار. من هذا المنطلق، يمكن أن يؤدي الأداء غير الكفؤ لمسؤولي السطلة المحلية وكذلك عدم العمل بمبدأ اللا مركزية إلى زيادة التحديات التي ستواجه الحكومة.

وإلى جانب السلطات المحلية، يلعب البرلمان اليمني، أو ما يعرف بمجلس النواب، دورًا مهمًّا في ما يتعلق بإدارة موارد الدولة. وقد نصَّت الاتفاقية على وجوب تقديم تقرير دوري شفاف عن إيرادات ومصروفات الدولة للبرلمان؛ من أجل التقييم والمراقبة، فلطالما أدى حجب تلك التقارير أو عدم شفافيتها إلى زيادة الفساد وإفقار الشعب. فعلى سبيل المثال، ذكرت وثيقة مسربة من السفارة الأمريكية في اليمن، على لسان حميد الأحمر، أن تهريب النفط من مصفاة عدن هو أحد أهم مصادر الفساد في البلاد، وأن شركة النفط اليمنية تتعمد حجب بيانات التكرير عن البرلمان؛ لتغطية أنشطتها غير المشروعة، والتي تتواطأ فيها أيضًا الحكومة اليمنية.

لم تذكر اتفاقية الرياض شيئًا عن المشاركة الجنوبية المُحتملة في مجلس النواب، وهو الهيئة التشريعية للدولة (بالإضافة إلى مجلس الشورى) والذي يمارس بموجب صلاحياته عملية وضع القوانين والتصويت والموافقة على السياسة العامة للدولة، كما يمارس الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية. ولكن، ومن خلال النظر إلى جهود حل القضية الجنوبية السابقة، يجب الإشارة إلى أن التقرير النهائي في ما يتعلق بالقضية الجنوبية، حسب مؤتمر الحوار الوطني، يعطي الجنوبيين نسبة خمسين في المئة في مجلس النواب، وذلك بالطبع بعد تبني الدستور الاتحادي، وهو ما يمكن القول إنه رأي يمثل أكثر الاقتراحات توافقًا.

ولكن، بغض النظر عن تمثيل الجنوبيين في البرلمان، فإن اتفاق الرياض يحتوي على بنود أخرى يمكنها المساهمة في تحقيق الشفافية والرقابة المالية والإدارية، ومن تلك البنود تفعيل الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة الذي يؤدي دورًا مهمًّا في الرقابة على الموارد العامة والتأكد من حسن إدارتها من حيث الاقتصاد والكفاءة والفعالية. وهو لا يخضع لسلطة السلطات المحلية. يمكن أن يؤدي تفعيل الجهاز المركزي ورفده بما يلزم من الموارد المالية والبشرية إلى تنمية موارد الدولة وتحسين أداء السلطة التنفيذية. في حضرموت، على سبيل المثال، خطى فرع الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة خطوات يشاد بها على الرغم من كل التحديات التي تواجهه.

ثانيا: الجانب العسكري والأمني
تنص اتفاقية الرياض على عدد من البنود التي يمكنها، بلا شك، وقف المواجهات التي كانت قد بدأت في أغسطس بين التشكيلات التابعة للمجلس الانتقالي والحكومة. من تلك البنود عودة جميع القوات التي تحركت باتجاه عدن وأبين وشبوة إلى مواقعها السابقة، وتجميع ونقل الأسلحة المتوسطة والثقيلة من جميع القوات العسكرية والأمنية إلى خارج عدن، وكذلك نقل القوات العسكرية التابعة للحكومة والتشكيلات العسكرية التابعة للمجلس الانتقالي في عدن إلى خارج المحافظة. من شأن هذه الخطوات تقليل الاحتكاك بين القوات العسكرية والأمنية المختلفة وتجنيب المدنيين والبنية التحتية المتداعية أصلًا آثار الصراع.

كما نصت الاتفاقية أيضًا على توحيد القوات العسكرية التابعة للحكومة والتشكيلات العسكرية التابعة للمجلس الانتقالي. تعتبر هذه النقطة بالذات إحدى النقاط الحساسة جدًّا في الاتفاق؛ حيث يأتي اتفاق الرياض كنتيجة للمواجهات المسلحة بين المجلس الانتقالي الجنوبي والقوات الموالية له، وبين الحكومة الشرعية والجماعات الموالية لها؛ بما في ذلك "الإصلاح" والجماعات الإرهابية. ومن غير الواضح بما فيه الكفاية الطريقة التي يُراد بها توحيد وإعادة تنظيم القوات العسكرية والأمنية في عدن والجنوب بطريقة تضمن حفظ الأمن داخل المدن وتوحد الصف ضد الحوثي، وفي الوقت نفسه تعطي الثقة للمجلس الانتقالي بأنهم لا يزالون يمتلكون "قوة دافعة" ونفوذًا يعزز قدرتهم التفاوضية؛ من أجل معالجة القضية الجنوبية في المستقبل.

من جديد، وبالعودة إلى وثيقة الحِوار الوطني، نص التقرير الختامي له على أن يمثل الجنوب بنسبة خمسين في المئة في الجيش والأمن؛ لكن، وبغض النظر عن الطريقة التي تم بها أو سيتم بها توحيد تلك القوات بناءً على اتفاق الرياض، فإن الاتفاق بحد ذاته يمثل أهمية بالغة في حقن الدماء وتوحيد الصفوف، ويؤكد من جديد نهج النضال السلمي المثابر الذي تبناه الجنوبيون منذ سنوات؛ من أجل تحقيق مطالبهم.

ماذا بعد الاتفاق؟
لقد أكسب اتفاق الرياض الحكومة الشرعية والجنوب نصرًا من عدة جوانب؛ فبالنسبة إلى الجنوبيين أعطاهم أخيرًا حقًّا في المشاركة في المحادثات المستقبلية بشأن الصراع في اليمن، وبالنسبة إلى الحكومة الشرعية فقد أبقاها في مأمن بشكل عام من التحديات العنيفة، وأوجد لها بدائل للحرب الداخلية من خلال منح الجنوبيين الفرصة للتأثير على ممارسة السلطة. إن أحد إنجازات الديمقراطية هو قبول الحكومات القيود المفروضة على سلطتها والتخلي عن استخدام القوة ضد منافسيها الذين يوافقون على نفس القيود.

ربما لا يعالج اتفاق الرياض المظالم الجذرية لمشكلة الجنوب؛ لكنه يبقى فرصة تاريخية للجميع، وعليه سيبقى على الأطراف الموقعة على الاتفاقية، وكذلك التحالف العربي بقيادة السعودية، العمل والإشراف على تنفيذ الاتفاق، وهو ما يمثل تحديًا حقيقيًّا آخر بالنظر إلى كم الاتفاقيات؛ بما في ذلك وثيقة مؤتمر الحوار وحتى الدستور نفسه، التي بقت لفترات طويلة حبرًا على ورق. ولكن من جانب آخر، سيكون اغتنام الفرصة الحقيقي من خلال تزامن تنفيذ الاتفاق مع تفعيل أجهزة الدولة؛ بما في ذلك مجلس النواب، والقضاء على الفساد، وتفعيل الصلاحيات الممنوحة للمجالس المحلية على مستوى المحافظات والمديريات، وهو الأمر الذي سيعزز الحكم المحلي الذي أثبت فعاليته وقدرته على إدارة التغيير رغم كل التحديات في المحافظات المحررة خلال الفترة الوجيزة الماضية.

"كيو بوست"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى