الألق في قصيدة: (نظرة في ملامح الروح) للشاعر أسامة المحوري (2-2)

> عبد الله لالي*

> الجزء الثاني:
كتبت الجزء الأوّل من قراءتي المتأمّلة في قصيدة (نظرة في ملامح الرّوح) للشاعر اليمني المتميّز أسامة المحوري؛ وقد سلكت فيها سبيل التذوّق والاستشفاف البياني على نهج الدكتور الأديب محمود شاكر رحمه الله في كتابه (المتنبّي) ولم أقرأ كتابه من قبل ولا علق عنوانه بذهني ولعلّه مرّ به، ثمّ يسّر الله أن قرأت جزءا منه، لا بأس به فوجدتني على السَنن والنهج فحمدت الله على توفيقه.

وقد كتبت ما كتبت وظنّي أنّ القصيدة من طرازٍ فريدٍ، ونسق فنّيّ عال لا يخطئه القارئ المتذوّق للشعر المحبّ للقصيد، يحفظه ويرويه أو يتغنّى به ويترنّم بإنشاده، وكان في نيّتي استكمال الكتابة عن القصيدة بالطريقة ذاتها عندما تتاح فرصةٌ من وقت، وفسحة من راحة البال وهدوء النّفس حتى أكتب شيئا ذا قيمة؛ يرفد ساحة الأدب ويضيف إليها صفحة من الجمال والبهاء.

وكانت القصيدة مشاركة في مسابقة أدبيّة فحظيت بالمرتبة الأولى، وجاءت النتيجة برداً وسلاماً على قلبي، وازددتُ وثوقاً بذائقتي الفنيّة، رغم فشوّ الشعر السّخيف وما يشبه الشعر أو الشَّعير في السّاحة الأدبيّة والثقافيّة على حدّ قول الشاعر أحمد مطر.

ويبدو أنّ أرحام العربيّات لم تعقم بعد – ولن تعقم إن شاء الله - عن إمداد الأمّة بأفذاذ الشعراء، ينفون عن الشعر دخيله وينخلون هجينه، وكان أسامة المحوري من هؤلاء، وكانت قصيدته من تلك الفرائد والدّرر التي طالما تألّق بها ديوان العرب.
يقول الشاعر:
يا صديقي أكادُ أحسدُ نفسي
أيُّ قلبِ من قلبك الحرِّ أنقى!!
حرتُ في روحِك الزكيةِ فهماً
ذبتُ في بوحِك المنمقِ عشقا
أمتطي الشوقَ كي أراك لأني
فيك ألقى أمانيَ العمرِ حقا
هل هناك أعظم من أن يرى الإنسان له صديقاً صدوقاً، يكون معه في كلّ حال، في شدّته ورخائه في بؤسه ونعمائه؟ أو ليس يقول المثل العربيّ: "صديقك من صدقك" أوليس قال الشاعر من قبل:
إنّ أخاك الحق من كان معك
إذا ما ريب الزمان صدعك
شتت شمله فيك ليجمعك 
وما هذا الأخ إلاّ صديقاً وفيّاً وخلاّ خليلاً..؟ وهو نادر في زمننا هذا بل ربما كان أندر من النادر، فلذلك حقّ للشاعر إذا ما عثر به أن يقول عنه:
يا صديقي أكادُ أحسدُ نفسي
أيُّ قلبِ من قلبك الحرِّ أنقى!!
هكذا يرى كلّ صديق صديقه المخلص نقيّاً طاهراً صفيّاِ مظاهراً، فلا قلب أصفى وأنقى من قلبه وأصدق..!! وإن يكن الشطر الأوّل يوحي بنوع من البساطة في التعبير والسذاجة في القول، إلاّ أنّ الشطر الثاني يأتي في متانة تسدّ النقص وتواري بعض الخلل في هذه المباشرة، التي ربّما اضطرّ الشاعر إليها انبهارا وافتتانا بصديقه، فلم يجد إلاّ أن يقول (يا صديقي أكاد أحسد نفسي).
والشاعر لشدّة تعلّقه بصديقه وافتتانه به جعل للشوق فرسا يُركبُ أو جوادا يمتطى ليطير إلى صديقه على عجل، ويحظى ببوحه الذي يلقى فيه كلّ أماني العمر، ثمّ يواصل الشاعر شدوه في آفاق الصّداقة الحقّى، والأخوّة الألِقة حتى يصل إلى الذروة من الوصف، فيقول:   
فأنا أنت صورةٌ من إخاءٍ
لا أرى في ملامحِ الروحِ فرقا
نحنُ عبدانِ – للمحبةِ – دوماً
بيدَ أنّا لا نطلبُ اليومَ عتقا!!
قد سبحنا في ودنا فغرقنا
ولعمري لنحنُ أسعدُ غرقى
إنّه ينسج مشهداً بديعاً مليئاً بعميق المعاني، دافقاً بلطافة السموّ الروحي، يشبه مشهد الحلاج – الذي فيه ضلّ وشاعرنا فيه اهتدى – عندما يقول:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
إنّ الصداقة التي هي خلاصة الأخوّة العميقة تصل إلى حدّ أن يبصر الصديق نفسه في صديقه، كما يرى صديقه نفسه فيه، فيشعر بما يشعر ويفرح لما يفرح ويألم لما يألم.. ويشتهي ما يشتهي ويبغض ما يبغض، فكأن قد استويا روحا واحدة وجسدا.

وهذا الاتحاد – غير الحلولي الحلاّجي – يشبه الأسرَ أو العبوديّة كما يسميّها الشاعر، وهي عبوديّة لا يبغي منها فكاكا ولا يروم خلاصا، لأنّ فيها قمّة الانتشاء الرّوحي والبهجة النفسيّة؛ ومن ذا يبغي العبوديّة أو الأسر؛ غير محبّ امتزج مع محبوبه في كيان واحد..؟!

ولذلك كانت هذه العبوديّة سباحة في نهر المحبّة، وإن يكن فيه الغرق فإنّ ذلك الغرقِ الحياةُ المرجوّة لا الموت، ومن ثمّة فلا طلب للخلاص من هذا الغرق لأنّه الغاية الكبرى التي تكمل بها السّعادة وتتمّ لصاحبها:  
قد سبحنا في ودنا فغرقنا
ولعمري لنحنُ أسعدُ غرقى
والقصيدة فريدة في بابها في الحقيقة تحتاج إلى تأمّل عميق، ودراسة تحليليّة أكثر تفصيلاً لتحيط بسماتها الفنيّة وقيمها المعنويّة، وأنا حين أعاود قراءتها أجدني كأنّي أحلِّق بجناحي الشاعر، في آفاق عليّة وفضاء رحب لا يحدّ، وتمتلئ نفسي بمعانٍ لطيفة تعجز عنها العبارة، ويقصر اللفظ في وصف جمالياتها.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى