عدن.. عندما يعرضها الماضي لعيني صوراً

> حالة تناسب طردي تتملكني كلما وضعتُ حالة مقارنة بين هيبة الدولة ووعي المواطن البسيط، ناهيك عن المسئول العسكري والمدني بالأمس، وتقيّــدهُ رغبة لا رهبة بالقوانين والانضباط بها شكلاً وروحاً، وتحديدا في فترة عقد ثمانينيات القرن الماضي التي أزعم أنّـها مثّــلَتْ العصر الذهبي لدولة الجنوب ودُرّة تاج جمهوريته، في عموم المجالات، ليس أولها احترام القوانين وقُــدسيته، ولا آخرها مزيّــة الاستقرار السياسي والأمني وسيادة العدالة الاجتماعية بين كل طبقات المجتمع إلى حد ما، وحالة الازدهار التي شهدها المجال التعليمي والثقافي والفني، بل عمّت كل المجالات دون استثناء في مرحلة كانت هي استثناء بكل المقاييس، أو قل كانت بيضة ديك لن تتكرر، لن تتكرر على المدى المنظور على الأقل -مع إقرارنا بوجود سلبيات وتجاوزات اعترت تلك المرحلة تأذى بسببها قطاع من الناس- وبين فوضوية اليوم التي يمارسها الأغلبية الساحقة من الناس للأسف، وعلى رأسهم مَــن يفترض أنهم حاميّ حمى القانون وهيبة الدولة وشرفها، من أصغر عسكري عربيد أحمق يتمنطق سلاح كلاشنكوفي مع خط أول من ذخيرة يطلقها يـمنة ويسرة كلما سخن رأسه، ويمتطي مع صحبه العرابيد طقما عسكريا، آخر موديل غير آبه بمن هم في طريقه ولا بمن سيقع تحت إطاراته الزاهية.. ومثله يفعل عرابيد آخرون فوق طقم آخر وهو ييممُّ بهم صوب مساحة أرض سكنية أو زراعية للبسط عليها وتقطيعها مربعات ومستطيلات، أو في أحسن حال سلخ صاحبها مبلغا من المال نظير جزية اسمها "حق الطقم". أما مواكب المسئولين الكبار وعجرفتهم، ونخيطهم، ونخيط مَـــن والاهم من ثلة اللصوص وشلة الفسدة والنهابين فحدّث ولا حرج.

فكلما أشهاد هكذا عجرفات وتصرفات بلطجية من أصغر هلفوت إلى أكبر صعلوك تلسعني لهيب الذكريات بشدة، لتـعرض أمامي صورا لمشاهد قديمة عظيمة في ذلك الزمن الاستثنائي، مشاهد ومواقف تستحق الحنين إليها والاقتداء بها وبأصحابها.

فعلى سبيل المثال ثمة مشهد لم يبارح ذاكراتي أبدًا برغم مرور أكثر من ثلاثة عقود عليه، وذلك كلما شاهدتُ اليوم هذا الكم الهائل من العبث والفوضى.. ففي يوم عدني نقي بهي، في صيف عام 1978م أو مطلع 79م تقريبا، وكنتُ حينها ما زلتُ في مرحلة دراستي الابتدائية في حي كريتر بالعاصمة عدن، هذا الحيّ الذي سكنته وسكنني سنين طوال، كنت بمعية والدي المرحوم أحمد يحيى السقلدي، في إحدى الليال في منزلنا ومعه صديقه وزير الداخلية السابق صالح مصلح قاسم، والوزير محمود عبدالله عشيش، ووزير آخر لا أعرفه جيداً لحداثة سني، ولكن كان اسمه الأول أو الثاني على ما أتذكّــر "سليمان" رحمهم الله جميعا. بقي الجميع في سمرهم إلى وقتٍ متأخر من الليل، وكان حينها إن لم تخنِ الذاكرة ليلة وداع أحد الوزراء من الحاضرين لم أعدُّ أتذكّــر أي منهم بالضبط، وكان من المفترض اصطحابه فجرا إلى المطار، وهو ما حدث فعلاً، حين توجه الجميع بسيارتين وكنت ملازما لوالدي دوما. توجه الجميع من كريتر صوب خور مكسر، مرورا بجولة التقاطع "السراج في جولة البنك الأهلي"، وهي الطريق التي كان لزاماً أن يسلكها كل مَــن كانت وجهته خور مكسر من البوابة الشرقية لكريتر طريق المحكمة قبل فتح الطريق الخلفي في صيرة. وبرغم خلو الطريق ليلتها تماماً من السيارات والمارّة بحكم الوقت المتأخر وقلة عدد السكان وآلياتهم، ومع ذلك وقف الجميع بسياراتهم أمام إشارة المرور الحمراء حتى تغيرت الإشارة ومضوا في سبيلهم. نحن نتحدث عن وقوف ثلاثة وزراء من بينهم وزير الداخلية أمام إشارة المرور، والطريق أمامهم خالية تماما والليل يلفه الصمتُ المذهل إلّا مِــن أصوات مكيفات الهواء التي لم تكن تعرف التوقف طوال فصول الصيف!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى