عُمان ودورها في حرب اليمن.. حياد أم تمكين هادئ لإيران؟

> "الأيام" عن "ساسة بوست":

> عندما يخبر رجل الأعمال عمار السديري (27 عامًا) الناس في أوروبا بأنه مواطن عمانيّ؛ فإنهم يدركون على الفور أنه «ليس شخصًا مثيرًا للمتاعب»، حسبما نقلت عنه صحيفة «سترايتس تايمز». وعمار المواطن يحتفي بما يفتخر به السلطان قابوس (79 عامًا)؛ من حيادٍ استطاعَت سلطنته الحفاظ عليه، رغم كَرّ السنين وتقلُّب الأحوال، ما أكسبها الكثير من الأصدقاء، وجنبها الكثير من الصراعات، وتوَّجها بلقب «سويسرا الشرق الأوسط».

وهذا الموقف الدبلوماسي الفريد في منطقةٍ تموج بالضغائن ليس طارئًا؛ فعندما قاطع العرب مصر لإبرامها اتفاق سلام مع إسرائيل عام 1978، حافظت مسقط على علاقاتها مع القاهرة. وعندما اندلعت الحرب بين إيران والعراق (1980- 1988)، التزمت عمان الحياد، واستضافت المحادثات بين الجانبين. صحيحٌ أن مسقط سمحت للعراق باستخدام قواعدها، إلا أنها سرعان ما سحبت التصريح بناءً على طلب الولايات المتحدة.

وخلال السنوات الأخيرة، أبقت عمان سفارتها في سوريا مفتوحة، حتى بعد قطع دول خليجية أخرى علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق. وفي الوقت ذاته، رفضت الانضمام إلى الحرب التي تقودها السعودية في اليمن. وأبقت موانئها مفتوحة أمام قطر، ما سمح لها بالالتفاف على المقاطعة التي تفرضها المملكة وحلفاؤها الثلاثة؛ الإمارات، والبحرين، ومصر.

الدبلوماسية العمانية الإيرانية
صحيحٌ أن عمان حين انضمت في عام 1981 إلى المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، والكويت، والبحرين، وقطر لتأسيس مجلس التعاون الخليجي، كانت تدرك أن أحد أهدافه الرئيسية ردع إيران؛ بيدَ أن ذلك لم يمنعها من معارضة خطة المملكة العربية السعودية لقطع علاقات دول المجلس تمامًا مع إيران.
وبعد حرب الخليج الثانية في الفترة من أغسطس 1990 إلى فبراير 1991، دفع السلطان قابوس ووزير خارجيته يوسف بن علوي بأن العراق كان يشكل تهديدًا أكبر للمنطقة من إيران، ونصحا الغرب بضرورة الحوار مع طهران بدلًا من عزلها.

بل ذهبت عمان إلى أبعد من ذلك، ولعبت دورًا دبلوماسيًّا أكبر لصالح إيران خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ففي أعقاب اقتحام السفارة البريطانية في طهران عام 2011، خَفّضت المملكة المتحدة علاقاتها الدبلوماسية مع إيران، ومثلت عمان مصلحة إيران في لندن حتى استؤنفت العلاقات في عام 2014.
وبالمثل، أغلقت كندا سفارتها في طهران في عام 2012، ووصف وزير الخارجية الكندي جون بيرد إيران بأنها «أكبر تهديد للأمن العالمي». وفي العام التالي، أعلنت وزارة الخارجية الكندية أن عُمان أصبحت «راعية مصالح إيران في كندا».

ومنذ ذلك الحين، لم يفتأ المسؤولون العمانيون يعارضون فرض عقوبات على إيران، ويصرون على أن الحوار هو السبيل لحل النزاعات، حتى قال دبلوماسي عماني سابق: «إيران جارة كبيرة، وهي موجودة لتبقى».
ولطالما افتخر السلطان قابوس بن سعيد آل سعيد، الذي يحكم السلطنة منذ عام 1970، بعلاقاته السياسية والاقتصادية الودِّية مع إيران، حتى إن علاقةً شخصيَّة كانت تربطه بالمرشد الأعلى روح الله الخميني.

وفي مطلع ديسمبر الجاري، دعا وزير الخارجية العماني، يوسف بن علوي، إلى عقد مؤتمر شامل لجميع الدول المعنية في الخليج، بمشاركة إيران؛ للحوار والتفاهم، ما استدعى إشادة متكررة من وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، بـ «الدور الجيد والبناء الذي تقوم به الجارة عمان».

طمأنة البيت
بمساعدة السلطان قابوس، مرَّرت إيران عددًا من الرسائل السرية إلى البيت الأبيض، منذ أواخر عام 2009، في محاولةٍ لاختبار مدى التزام الرئيس باراك أوباما بتحسين العلاقات مع الجمهورية الإسلامية، حسبما كشف الصحفي المتخصص في الشؤون الخارجية والأمن القومي، جاي سولومون، في صحيفة «وول ستريت جورنال».
سعيًا لتعزيز الثقة بين الجانبين، سهّل سالم بن ناصر الإسماعيلي، المستشار الاقتصادي للسلطان قابوس، عودة المحتجزين في كلا البلدين. وأخبر وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي السفير الأمريكي في عمان ريتشارد شميير أن «بإمكان عمان ترتيب أي اجتماع تريده، وتوفير مكان لانعقاده».

ولم تعد هذه الجهود سرًّا بعدما أشادت إدارة أوباما علنًا بسلطنة عمان لتأسيسها قناة تفاوض خلفية بين الولايات المتحدة وإيران، أسفرت في نهاية المطاف عن الصفقة النووية عام 2015، والمعروفة رسميًّا باسم خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، والتي عمل السلطان قابوس على الترويج لها في أرجاء العالم العربي المتشكك.

ولم تكن إدارة أوباما بِدْعًا من الإدارات الأمريكية التي سبقتها، إذ نقل وزير الخارجية العماني رسائل الرئيس كلينتون إلى القيادات الإيرانية. وعلى الرغم من تغيُّر سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران بعد دخول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ما تزال عمان ملتزمة بوساطتها الدبلوماسية.

وحتى لا تلقي السياسة الأمريكية الصارمة بوطأتها على العلاقات الاقتصادية المثمرة بين سلطنة عمان والجمهورية الإسلامية، سارعت مسقط لإعادة بناء الثقة مع إدارة ترامب، حتى إنها استضافت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أكتوبر 2018، وأبرمت اتفاقًا مع الولايات المتحدة في مارس 2019 يسمح للجيش الأمريكي بمزيد من الوصول إلى الموانئ العمانية.

حياد أم تمكين هادئ لإيران؟
وراء الصورة المثالية التي تظهر بها عمان طرفًا محايدًا، ومُسَهِّلًا للحوار إذا سنحت الفرصة، ظهرت تقارير تفيد بأن إيران ربما تكون هَرَّبت أسلحة للمتمردين الحوثيين في اليمن برًّا عبر عمان. وحتى لو لم يكن خلف الدخان نار، ثارت شكوك غربية وخليجية بشأن مدى التزام السلطنة بالاستقرار في المنطقة، وأعرب المسؤولون الأمريكيون، والإسرائيليون، والسعوديون، والإماراتيون، واليمنيون عن قلقهم من موقف السلطنة، وطالبوا مسقط بالمزيد من الإجراءات الحاسمة.

وكشف تقرير أصدره مجلس الشيوخ الأمريكي عام 2018 أن البنوك العمانية ساعدت إيران في الوصول إلى احتياطياتها الأجنبية بعد دخول الاتفاق النووي حيز التنفيذ. صحيحٌ أن ذلك حدث تحت سمع وبصر وزارة الخزانة في عهد أوباما، إلا أنه أثار شكوكًا إضافية حول جهود عمان لتزويد إيران بالمساعدات المالية.

حتى لو أنكر المسؤولون العمانيون أي علاقة لهم بهذه المسائل، فإن المحامية الأمريكية إيرينا تسوكرمان، المختصة في شؤون الأمن القومي، تخلص إلى أن «الحياد العماني في مواجهة العدوان الإيراني؛ يرقى لمستوى التمكين غير المباشر للجمهورية الإسلامية». وقالت في تحليل نشره عبر موقع «مودرن دبلوماسي» الأمريكي: «على الرغم من كافة ادعاءات عمان بالحياد، فإنها في الواقع تقف إلى جانب إيران بهدوء، وتُسَهِّل جدول أعمالها».

بل يذهب سالم حميد، رئيس ومؤسس «مركز المزماة للدراسات والبحوث» في دبي، إلى أن «تحيُّز عمان تجاوز مجرد القيام بدور الذراع الدبلوماسية لطهران في المنطقة، وانتقل من مجرد التنسيق بين الغرب وإيران، وتجميل صورة إيران في الدوائر الدبلوماسية الغربية، إلى إيجاد ذراع سياسية لطهران في السلطنة، والتعبير عن طموحات إيران في المنطقة من داخل البيئة العمانية».

ويضيف في تحليل نشرته صحيفة «أراب ويكلي»: «من يبذل جهدًا لدراسة الوضع عن كثب؛ يجد أن الجانب العماني سيواصل نهجه في لعب دور يسمح له بالاقتراب باستمرار من طهران على حساب أمن الخليج».

خوفًا من إيران أم رغبةً في السلام؟
هذا الموقف العماني المحايد، أو المنحاز إلى إيران في نظر البعض، ربما «يكون مدفوعًا بالخوف بقدر الرغبة في السلام»، حسبما خلُص تقرير مطول أعده كلٌّ من جوناثان شانزر، النائب الأول لرئيس الأبحاث في منظمة الدفاع عن الديمقراطيات، والباحثة نيكول سالتر. وهما يستشهدان بـ «شبكة تجسس» اكتشفتها عمان في أواخر التسعينيات قيل إنها كانت تنقل وثائق حساسة إلى إيران، وربما تعمل على إطاحة الحكومة العمانية لصالح نظام إسلامي.

وليس سرًّا، بل عمان نفسها تدرك أنها دولة غير حصينة، في خضم بحر متلاطم من المشكلات التي تحيط بها إحاطة السوار بالمعصم، في اليمن، وإيران، والسعودية، وحتى باكستان، كما أشار مارك فاليري، مدير «مركز دراسات الخليج» في جامعة إكستر البريطانية، هذا ما يجعلهم «يريدون أن يكونوا ودودين مع جميع الأطراف المحيطة».

وما ذهب إليه فاليري، أكده الصحافي العماني فهد المقرشي في تصريح لموقع «ميدل إيست آي»، قال فيه: «الجميع في عمان يرحبون بنزع فتيل التوتر بين الرياض وحلفائها من جهة، وطهران من جهة أخرى»، مضيفًا: «يكفي ذلك. إنه لأمر محزن حقًّا، ما الهدف من الحرب؟ الجميع سيخسرون».

إيران الشيعية والخليج السنيّ؟
إلى جانب الفوائد التي تعود على السلطنة من نزع فتيل التوتر في المنطقة، يستحضر جورجيو كافيرو، مؤسس مركز «جولف استيت أناليتكس» للاستشارات، عاملًا آخر يراه لا يقل أهمية. فعُمان هي الدولة الوحيدة ذات الأغلبية الإباضية في العالم، وفي حين أن للطائفة أتباعها في زنجبار والمغرب الكبير، فإن ثلاثة أرباع مسلمي الإباضية في العالم من العمانيين. وبينما توصف الإباضية في كثير من الأحيان بأنها طائفة محافظة، فإنها متسامحة، وترفض استخدام العنف لتحقيق غايات سياسية.

وبما أن الإباضية تشكل ركيزة أساسية للهوية الوطنية العمانية، فإن السياسة الخارجية التي تنتهجها السلطنة تبدو وكأنها تعكس التأثير المعتدل لهذه الطائفة في المجتمع العماني، كما يخلص كافيرو.
لكن المحامية إيرينا تسوكرمان تخالف هذا التحليل، وترى أن الإباضية العمانيين أقرب إلى الشيعة الإيرانيين، على الرغم من اعترافها بالفروق العقدية والاختلافات الثقافية بين الجانبين، وتخلص إلى أن الإرث الديني يجعل العمانيين يشعرون وكأنهم أقلية في المنطقة ذات الأغلبية السنية.

فهم الدبلوماسية العمانية
يميل الباحث جوزيف كشيشيان إلى تحليل كافيرو أكثر مما ذهبت إليه إيرينا، ويذهب في تحليل نشرته مؤسسة «راند» إلى أن فهم السياسة الخارجية العمانية يتطلب أولًا فهم كيف تعمل الدبلوماسية الماهرة، التي بمقدورها الموازنة بين المصالح، والتسامح تجاه الاختلافات، والبحث الحازم عن المنفعة المتبادلة، وفتح أبواب التواصل الدولي، وإبقاؤها مفتوحة حتى أثناء الصراع. ولولا هذا النهج، ما استطاع السلطان قابوس تحويل عُمان من دولة منعزلة وغير مستقرة، إلى بلد رائد في الدبلوماسية الشرق أوسطية والعالمية.

والمُكَوِّن الثابت الذي يراه كشيشيان راسخًا في سياسة قابوس الخارجية هو «البراجماتية». فالسلطان لا يبالغ في تقدير قدرات عمان، ولا يغرق في التفاؤل بشأن نوايا الدول الأخرى تجاه السلطنة. كما أنه لا يستبعد أن يتحوَّل الأعداء السابقون إلى شركاء محتملين، ولا يستنكف أن يطرح مبادرات جريئة لا تحظى بشعبية بين نظرائه من الحكام العرب، طالما أنها تخدم أهداف بلاده طويلة الأجل، المتمثلة في تأمين احتياجات عمان السياسية، والاقتصادية، والعسكرية.

وعلى قدر ما يبدو هذا التفسير بسيطًا، فإن تطبيقه واقعًا شديد التعقيد، وهذا ما جعل «عمان عصية على الفهم، بقدر ما هي مفتوحة وبسيطة»، على حد وصف مالك العثامنة، المختص في شؤون الشرق الأوسط، الذي يرى أن مقولة بوشكين عن روسيا تنطبق على عُمان: «ذلك لغزها الغامض، غموض ليس فيه أسرار».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى