من فني طابعة إلى بائع متجول بالطرقات

> يبيع المناديل ليمسح عرق الآخرين فمن يمسح له عرق الشقاء من جبينه؟

> رأيته من بعيد يتكئ على إحدى يديه بعصا غليظة لتساعده على السير بظهره المنحني، واليد الأخرى يحمل بها كمية من مناديل الجيب الورقية، يجول في طرقات عدن يقطعها يمينا يسارا، يسير بين العربيات بخطوات متثاقلة ليبيع لهم المناديل، يسترزق منها بعد أن داهمه المرض وانحنى ظهره وتوقف عن العمل.

في خط كورنيش الساحل بمديرية خور مكسر قريب من جامعة عدن والفنادق العريقة يلفت نظرك رجل على مشارف منتصف العقد الخامس، نقش الزمن تفاصيل الوجع على جبينه وجسده وملابسه.

يسير بصعوبة ينادي بين العربيات بصوت خافت مليء بالوجع "مناديل اشتر منديلا وامسح عرقك" وحين تنظر إليه تجد العرق يغطي جبينه، مما يدفعك لتسأل نفسك من يمسح له عرق الشقاء؟

إنه العم علي من يجاهد في سبيل توفير لقمة العيش للبقاء على قيد الحياة، في السطور الآتية نقرأ حكاية فني طباعة تحول إلى بائع مناديل ورقية.

ناديته لأشتري منه منديلا وأعرف حكايته، وسألته ما الذي كلف عليك بهذا الشقاء وأنت تمشي بصعوبة؟

نظر لي نظرة طويلة وكأنه يسأل، ومالك بي؟! أنتِ اشتري منديلك وامشي، يكفي ما أعانيه من قسوة الحياة فلا تزيدي معاناتي بقسوة السؤال، ولكي أبعد عنه هواجس القلق والخوف قلت له: عملي صحفي وأعمل في صحيفة "الأيام" وحالك لفت نظري وأحببت أن أعرف حكايتك لأكتب عنك لتكون قدوة لشباب أصحاء اتكلوا على احتراف الشحاتة! وابتسم بفرح وقال: يا ابنتي كثيرون يمرون من هنا ولا أحد يتوقف ويسألني لما أنا هنا؟

تحدث لي دون أن أسال وقال: أنا فني طباعة! وعندما رأى دهشتي واصل يسرد حكايته: عملت كفني طباعة على مطابع الأوفست فترة طويلة، وحين داهمني المرض وأصبت بالعمود الفقري وانحنى ظهري، استغنوا عني وأنا وحيد ليس لي غير الله هو سندي، وليس لي زوجة ترعاني ولا ابن يسندني ولا ابنة تفرحني وتسعدني.

واصل حديثة قائلاُ: ما دفعني للخروج والبقاء تحت أشعة الشمس إلا أكل العيش، ويسأل من يأكلني ويصرف علي إن لم أجاهد أنا؟ ففي الحياة أنواع مختلفة من الجهاد أصعبها جهاد توفير لقمة العيش الذي أصبح من الأمور الصعبة، بل والمستحيلة في وقتنا الراهن.

علي طاهر: أصعب جهاد هو توفير لقمة العيش
علي طاهر: أصعب جهاد هو توفير لقمة العيش

سألته عن اسمه وعن عائلته أجابني بصوت مليء بوجع مرارة الآه، اسمي (علي طاهر)، أعيش وحيدا ليس لي زوجة ولا أبناء، وحسب قوله: ليس له سكن لهذا اتخذ من الساحل سكنا لينام فيه، وليسترد أنفاسه من اللف والدوران طول النهار.

قال العم علي: "يا ابنتي حرقتنا الشمس، ولكن البحث عن الرزق ليس بالأمر السهل فإن لم أخرج للبحث عن رزقي فلن أجد من يعطيني فلا أحد يدري بأحد خاصة إذا كنت وحيدا وليس لك عائلة".

العم علي طاهر يخرج كل صباح يقف على مشارف الطريق ليبيع المناديل ليمسح بها سائقو العربيات المختلفة التي تمر، بعضها بتكييفها وزجاجها العاكس تراه وهو لا يراها، رغم هذا تتجاهله تمر سريعا ولا تتوقف.

مناديل العم علي تمسح عرق الآخرين من حرارة الجو، ولكن من يمسح عرق العم علي المنهمر على جبينه بسبب التعب وحرارة الشمس؟ لا أحد.

علي طاهر: أصعب جهاد هو توفير لقمة العيش
علي طاهر: أصعب جهاد هو توفير لقمة العيش


يقول العم علي: أخرج مبكرا، قبل أن تحمى الشمس، أحاول إقناع الآخرين بشراء المناديل وحين يداهمني وجع الظهر أجلس على حافة الرصيف أستريح من تعب المشي بين العربيات وتحت حرارة الشمس الملتهبة.

وفي كل صباح يخرج العم علي حاملا تلك المناديل يبحث عن قوت يومه، في الوقت الذي نرى فيه الكثير من الشباب والرجال والنساء بكامل صحتهم يمدون أيديهم للآخرين ويستجدون الصدقات أبى العم علي إلا أن يأكل ويشقى ويستخرج قوت يومه من عرق جبينه.

العم علي رجل جار عليه الزمن يعاني من العمود الفقري لا يجد حق التطبيب في دولة قانونها يكفل له حق التطبيب المجاني ويعيش على ساحل البحر دون سكن يأويه تأكله ملوحة البحر وهو يستظل بدولة قانونها يكفل له حق الحصول على سكن.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى