الصدام الأميركي الإيراني يخلط أوراق اليمن والإقليم

> د.علي القحيص

>
 مازال المشهد غامضاً، والرؤية غير واضحة حول التوتر بين الولايات المتحدة الأميركية ونظام الملالي في إيران، حيث لم يتوقع أحد أن يكون الصدام مباشرة وقتل رأس الحربة الإرهابي الإيراني بهذا المشهد رغم تفوق القدرة الأميركية على المستوى السياسي والعسكري، ونقيضه التخبط الإيراني داخلياً وخارجياً، خصوصاً بعد التهديدات الإيرانية الكاذبة والتصريحات المزعومة حيال إسقاط الطائرة الأوكرانية، وما تلاها من تصريحات إيرانية متناقضة ومتشنجة وكاذبة، يفرض تصاعد حدة التوتر (الأمريكي - الإيراني)، بين الرد والرد المضاد، تداعيات على الأوضاع الداخلية في منطقة الشرق الأوسط خلال الفترة المقبلة، والتي يتمثل أبرزها في تأجيج التدخل التركي في ليبيا، وتحدي دعم موسكو لبقاء نظام الأسد في سورية، وتآكل مصداقية حزب الله في لبنان وميليشيا الانقلابيين الحوثيين في اليمن، وغموض مستقبل ميليشيات الحشد الشعبي في العراق، وخفوت حدة الاحتجاجات الشعبية في إيران، وانتعاش هجمات التنظيمات الإرهابية الخطرة، حيث نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة بدولة الإمارات العربية المتحدة تقريراً حديثاً يتناول التأثيرات المحتملة للتوتر بين واشنطن وطهران على الأوضاع داخل بعض دول الإقليم.

حيث أكد التقرير أن تأجيج التدخل التركي في ليبيا قد شهد مرحلة ما قبل مقتل قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني محاولات مستمرة من أنقرة لـ "شرعنة" وجودها العسكري في الغرب الليبي انطلاقاً من طلب المساعدة الذي قدمته لها حكومة الوفاق، الأمر الذي يساهم في تأجيج الصراع، لاسيما في ظل محاولات تقودها عواصم عربية وغربية لوقف إطلاق النار والتوصل إلى تسوية سياسية لهذا الصراع وإنهاء التدخلات الخارجية، وهو ما تطالب به دول جوار ليبيا مثل مصر وتونس والجزائر، وأكد عليه الاجتماع الوزاري الخماسي الذي استضافته القاهرة في 8 يناير الجاري وضم مصر وفرنسا وإيطاليا وقبرص واليونان. وفي هذا السياق، تحاول تركيا استغلال الانشغال الإقليمي بالتصعيد الإيراني - الأميركي لدعم نفوذها في ليبيا، بما يحقق لها عدة أهداف.

ومن أبرز تلك الأهداف التواجد في بقعة مهمة داخل منطقة شرق المتوسط التي لجأت العديد من الدول المطلة على شواطئها إلى ترسيم حدودها البحرية، وبصفة خاصة مصر وقبرص واليونان، للقيام بأعمال البحث والتنقيب عن الغاز. كما أن ليبيا تمثل مصدراً رئيسياً للطاقة بالنسبة لتركيا، لاسيما أن الأخيرة تعاني نقصاً رئيسياً من إمدادات الطاقة، وتلجأ إلى استيراد معظمها من دول أخرى. بخلاف الحصول على عقود لإعادة إعمار ليبيا في مرحلة ما بعد انتهاء الصراع العسكري. غير أن البعد الجغرافي النسبي لأنقرة عن طرابلس، ورفض الدعم اللوجيستي من قبل الجزائر وتونس، فضلاً عن تقدم قوات الجيش الوطني الليبي وسيطرته على مدينة سرت بحيث لم يعد في مواجهته سوى مصراتة وطرابلس، كل ذلك يضعف نفوذ أنقرة، بالتوازي مع التحركات التي تقوم بها روسيا والتي تشير إلى أنها لا تريد توسيع نطاق الحرب في ليبيا.

وأضاف التقرير "كما يتمثل أحد التداعيات المحتملة للتوتر بين واشنطن وطهران في تخوف موسكو من إمكانية اتجاه واشنطن لاستهداف نظام الأسد في مرحلة لاحقة بدعوى مواجهة النفوذ الإيراني هناك أو لأى سبب آخر، وهو ما يلقي بتأثيراته على أعباء موسكو المثقلة منذ انخراطها عسكرياً في الصراع السوري في سبتمبر 2015. ولعل ذلك ما يفسر قيام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بزيارة مفاجئة إلى سورية، حيث التقى الأسد في مقر العمليات العسكرية الروسية، في 7 يناير الجاري، للتأكيد على دعم النظام السوري. وقد أعلن الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف أنه: خلال محادثاته مع الأسد، لفت بوتين إلى أنه يمكن القول بيقين إنه تم اجتياز طريق هائل نحو إعادة ترسيخ الدولة السورية ووحدة أراضيها".

فقد برز اتجاه في التحليلات يشير إلى أن مقتل سليماني مثل محاولة من واشنطن للحفاظ على وجودها في العراق بعد تراجع نفوذها في سورية. وعلى الرغم من أن هناك تنافساً بين الحلفاء "روسيا وإيران" داخل الساحة السورية، إلا أن هناك قاسماً مشتركاً بينهما يتعلق بالحد من النفوذ الأميركي. ومن ثم، سيفرض مقتل سليماني تحديات أمام الرئيس بوتين نظراً إلى تعويله على مساعدة إيران لدعم نظام الأسد، حيث إن ضعف إيران، في حال استهداف وجودها بالداخل السوري من الولايات المتحدة أو إسرائيل، سوف يؤثر على موسكو بدرجة ما، خاصة أنها ستجد نفسها تحارب وحيدة إلى جانب قوات النظامي السوري. ولعل ما يؤكد صحة هذا التحليل إخلاء الميليشيات الموالية لإيران مقراتها في البوكمال بداية من 5 يناير الجاري تحسباً لغارات أميركية أو إسرائيلية محتملة.

وأضاف التقرير أن هناك تآكلاً لمصداقية حزب الله في لبنان وميليشيا الحوثيين في اليمن على الرغم من تلويح الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله في خطاب له في 6 يناير الجاري، بـ "الحرب المفتوحة" لإخراج القوات الأميركية من المنطقة، واستهداف المصالح الأميركية، إلا أن ذلك يتعذر حدوثه لأنه قد يقود إلى نتائج كارثية على الداخل اللبناني لاسيما في ظل تعثر محاولات تشكيل الحكومة التي يقودها حسان دياب، وصعوبة الأوضاع الاقتصادية والمالية. وتبعاً لذلك، لا يمكن أن يجد لبنان نفسه جزءاً من حرب مدمرة، والتي يستبعد حدوثها بين طرفيها الرئيسيين واشنطن وطهران، وهو ما يضعف من مصداقية الحزب في الداخل اللبناني.

كما أن ميليشيا الانقلابيين الحوثيين لا يمكنها المغامرة باستهداف بوارج بحرية أميركية، على الرغم من قيامها بحشد تظاهرات ضمت الآلاف من أتباعها في مدينتي صنعاء وصعدة خلال يومي 5 و6 يناير الجاري، فضلاً عن إغراق الشوارع بصور سليماني وأبومهدي المهندس. وفي هذا السياق، قال وزير إعلام ميليشيا الحوثي، ضيف الله الشامي: "إن دماء سليماني والمهندس ستتحول إلى صواريخ عابرة للقارات وأسلحة تدمر البوارج الأميركية وتنهي التواجد الأميركي في المنطقة". وعلى الرغم من التماهي بين الحوثيين وإيران في العقيدة والمشروع والأهداف، إلا أن الحوثيين لا يمكنهم الدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة قد تهدد مواقعهم الميدانية.

وأوضح التقرير أن هناك غموضاً لمستقبل ميليشيات الحشد الشعبي في العراق حيث صارت هذه الميليشيات القوة الرئيسة الداعمة للسياسة الإيرانية في مواجهة الولايات المتحدة، لاسيما مع إقدام "كتائب حزب الله العراق" على مهاجمة القوات الأميركية بشكل أسفر عن مقتل مقاول أميركي في 27 ديسمبر الفائت، وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى توجيه ضربات ضد مواقعها في سورية والعراق بعدها بيومين، عبر استهداف خمس منشآت عسكرية لتلك الكتائب، وهو ما استتبعه اختراق عناصر "الحشد الشعبي" المنطقة الخضراء في بغداد لمحاصرة السفارة الأميركية، على نحو كان له دور في اتجاه واشنطن لتوجيه الضربة العسكرية التي أدت إلى مقتل سليماني.

فضلاً عن ذلك، فإن الضربات الصاروخية الإيرانية على قاعدتين في الأنبار وأربيل تمت، وفقاً لتقارير عديدة، بدعم وتنسيق من الحشد الشعبي، الأمر الذي قد يؤثر على العلاقة بين الولايات المتحدة والحكومة العراقية، لاسيما في ظل ضغوط الحشد الشعبي على الحكومة ومجلس النواب لإخراج القوات الأميركية من البلاد، بعد اتخاذ الولايات المتحدة إجراءات عسكرية داخل الأراضي العراقية، وإن لم يتم تحديد آلية معينة وجدول زمني محدد للخروج، مع الأخذ في الاعتبار رفض الرئيس ترمب الانسحاب إلا في حال دفع الحكومة العراقية تكلفة إنشاء القواعد العسكرية الأميركية، وهو ما يتزامن مع ارتباك الأخيرة في التعامل مع الملفات المختلفة.

وأكد التقرير أن النظام الإيراني سيوظف عملية اغتيال سليماني بشكل ممتد بما يؤدي إلى تراجع الاحتجاجات التي كانت تخرج فيها قطاعات واسعة من المجتمع وفي مدن عديدة، على نحو ما برز جلياً خلال العامين الأخيرين. بعبارة أخرى، سوف يوظف المحافظون المتشددون داخل إيران ما يجري خارجياً للاستفادة من المشهد على الصعيد الداخلي وذلك بعد شهرين من اندلاع احتجاجات على خلفية مطالب معيشية وتوجيه انتقادات حادة للسياسة الخارجية.

ولذا، سوف يطلق أركان عديدة في النظام الإيراني تصريحات كلامية، خلال الفترة المقبلة، من شأنها تكوين جبهة واسعة من الرأي العام الداخلي لمناهضة واشنطن، لإدراك هذا النظام الخطر الحقيقي لاندلاع حرب مباشرة ضد الولايات المتحدة، التي سيسعى إلى تجنبها.
وأوضح التقرير أن إحدى النتائج غير المقصودة التي يمكن أن يسفر عنها تزايد التوتر بين واشنطن وطهران، فضلاً عن تعقد حل الصراعات الداخلية المسلحة العربية، وتدخلات الأطراف الإقليمية، يتعلق بمحاولة كوادر ومقاتلي تنظيم مثل "داعش" العودة لتوسيع نطاق هجماته في بعض المناطق الرخوة، وتحديداً على الحدود العراقية.

واختتم التقرير أن هناك مروحة من التأثيرات الناجمة عن التوتر الأميركي - الإيراني، في ظل جغرافيا متحركة وحدود رخوة غير قابلة للسيطرة عليها وجيوش موازية تقدم نفسها كخيارات بديلة للجيوش النظامية وتدخلات إقليمية عازمة على إضعاف مناعة الدولة الوطنية العربية وأدوار رمادية للقوى الدولية إزاء تفاعلات الشرق الأوسط، بما يؤدي إلى زيادة مضاعفات عدم الاستقرار الإقليمي خلال عام 2020.
"الرياض"​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى