التأديب الحضاري

> كان عبده علي، وهذا ليس اسمه الحقيقي، معتزاً بلون جسمه وأناقته ووسامته، هذا التميز جعل منه شخصاً يقلد السلطان في مشيته وفي ملبسه ومحاكاته حتى ظنه الناس أنه السلطان المنتظر، ووصل خبره للسلطان وطلبوا منه أن يزجر هذا الشخص لأنه تعدى على تقاليد السلطنة بطريقته في التقليد، لكن السلطان لم يعرهم اهتمامه وقال لهم دعوة يسير على عادته فنحن لا نجد الناس على عاداتهم في التقليد، ولكن الذين بلغوا السلطان رأوا أن هذا تعدٍ على حرمة السلطان فأبى السلطان معاقبته.

وفي إحدى المناسبات، أقام السلطان مأدبة غداء، دعا فيها الأعيان والقبائل والمشايخ للغداء، وكان المقلد أحداً منهم، فلما انتهوا من المأدبة رأى السلطان أن يعطي درساً لهذا المقلد فأمر بإحضار الثلج ووضعه في الدست المملوء بالشحم والسواد، وقال للمقلد: "ودّي هذا الثلج للأمير أحمد فضل القمندان"، فلم يستطع المقلد كسر أوامر السلطان فحمل الدست من الروضة محل الضيافة إلى بيت القمندان، وفي الطريق ترشح الدست تحت تأثير الثلج فنزل الشحم والسواد بدلة المقلد، ولما وصل إلى بيت القمندان كانت ثياب المقلد مبهذلة، فبكى المقلد أمام القمندان لكن القمندان جبر خاطره، وقال له لقد سواها فيك السلطان ولي معه عتاب على ذلك، ثم أعطى المقلد ثياباً سلطانية جديدة، إلا أن المقلد رفضها بسبب ظنه أنه إذا رآه السلطان بهذا الشكل قد يأمره بحمل رؤوس التيوس المذبوحة، فرفض إلا أن يلبس بدلة متواضعة خوفاً من ذلك بعدها بطل المقلد تقليد السلطان.

وفي جلسة المقيل وأمام الضحكات والفكاهات التي سرت بينهما، لاحظ السلطان أن زعيم قبائل آل عزب، ذيل عمامته أطول من ذيل عمامة السلطان، فقال السلطان لزعيم القبيلة لقد أصبحت عمامته أطول من ذيل عمامة السلطان. إلا أن زعيم قبيلة العزيبة أجاب: "كلا، ولن تكون ذلك، فالعين لا ترتفع عن الحاجب"، فقام الزعيم القبلي بعكف ذيل عمامته حتى لا تكون طويلة، وحتى اليوم أصبح ناس آل عزب يعتمرون العمامة وهي معقوفة الذيل.

هل رأيتم تسامحاً أكثر من هذا؟ عندما كان الأمير فضل عبدالكريم ولياً للعهد استهدفته مؤامرة أدت إلى إطلاق الرصاص عليه وإصابة إحداها عينه اليسرى، والأخرى أصابت فخذه الأيمن، وسافر الأمير إلى لندن، ووصفت له عيناً زجاجية ولم تثنهِ هذه القضية إلا بتنصيب الأمير فضل عبدالكريم سلطاناً على لحج.

وعندما تولى السلطنة لم يقم بالثأر من أولاد عمومته الذين يتهمهم بالمؤامرة؛ بل قربهم إليه وأعطى الأول مديراً للعدل، والآخر مديراً للداخلية، ثم فتح لها ملفين في قصره، متأكداً بأن شكاوى عديدة سوف تطالهم.

ولما صدقت تنبؤاته وتضخم الملفات من شكاوى المواطنين استدعى مدير الداخلية والعدل ونصب لهما محاكمة قانونية انتهت بالحكم عليهما بالإعدام.

حكومة عدن طلبت من محكمة صيرة التحقيق في ملابسات القضية ومحاكمة الأمير على ما اقترفه من عمل يتطلب المحاكمة ووجهت للأمير طلباً يستدعيه للحضور إلى محكمة عدن للتحقيق معه في هذا الجُرم.

لكن الأمير فضل عبدالكريم غادر لحج وتوجه إلى تعز خوفاً من محاكمته، وعندما اجتمعت بيوت العبادل لتنصيب سلطان جديد يخلف السلطان السابق، وقفوا أمام قضية مكانة السلطان وضرورة احترام وجاهته السلطانية وأن لا يُهان ولا يوضع في ظروف تجعله يستجدي مصروفاته.

وحفاظاً على مكانة السلطان وسمعته أرسلت له مرتباته الشهرية بانتظام وحصرت أملاكه ووصفتها تحت تصرفه من خلال وكيله ولم يمس منزله أو أملاكه بشيء، فهل رأيتكم مثل هذا التسامح والتقدير لمكانة السلطان واحترام سمعته ووصفه الاجتماعي، رغم الفعل الذي اقترفه ضد أولاد عمومته؟

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى