قبسات من المرشدي الكبير.. «المرشدي لحجيًا»

> د. هشام محسن السقاف

> تصادف رحيل الفنان الكبير محمد مرشد ناجي في السابع من فبراير 2013م، في نفس اليوم الذي تُوفي الفنان الكبير فيصل علوي بفارق ثلاث سنوات؛ أي في 7 فبراير 2010م، إنها الصدفة لا شك في ذلك، أو ربما هي الأقدار أيضاً، وفي الحالتين أزال المرشدي الكبير بعض الوهم الذي قد يخلق في نفوسنا أحياناً عن تنافس فني يلقي بظلاله على العلاقات الشخصية بين الفنانين بكلام من القلب قاله المرشدي ووضح به علاقته بفيصل العملاق تكاد تقتطف منه إكليلا من ورد تضعه على صدر فيصل، وشهد عليّ الأخ الفاضل هاشم محمد مرشد حين يردد المرشدي على مسامعنا كل جمعة ذلك الشريط الإنساني (السمعي) عن محبته لفيصل، وبلهجته (الشيخية) الدافئة يقول: "كل جمعة كنت أقول لهاشم جهز السيارة بنزور عمك فيصل". وعندما يصل إلى المحور المهم يقول: وعندما نذهب في وفد فني إلى دولة لنقيم احتفالات مع المغتربين وسواهم فيأخذ فيصل الجمهور منا.

وبذات المعنى سمعت العطروش الرائع يكرر ذلك ويردف: "اضطررنا في بعض الأحيان أن تكون لفيصل حفلته الخاصة"، ويذكر البعض أن فيصل أحيا حفل زواج أنجال المرشدي؛ لأن الأخير كان قد اعتزل الغناء، ولا أقول الفن الغنائي، وهو ما كرره المرشدي معتذراً للفنان عبود الخواجة ليلة عرسه في الوهط، أراد الخواجة أن يحظى بتخليد عرسه بأغنية من شيخ الفنانين الذي تزرع واستشهد بعدم غنائه بعرس أبنائه، لكنه غنى؛ نعم غنى المرشدي عندما كرمته جامعة عدن، بمعية الفنان القدير أيوب طارش، صبح ذات يوم، وضمنا مجلس دار "الأيام" ظهراً بحضور فقيد الوطن الأستاذ الكبير هشام محمد علي باشراحيل، وحضر أولاد "عود" المرشدي عندما استجاب أيوب لطلبات الموجودين ليغني فغنى، ولم يفلح رئيس الجامعة حينها د. عبدالكريم راضع في إقناع الفنان الكبير بالغناء في مناسبة كهذه، وأسقط بيده فأومأ إليّ باشراحيل الكبير أن أدلي بدلوي، وما هي إلا لحظات حتى كان (أبو علي) يغني: "أراك طروباً والهاً كالمتيم"، تم أتبعها بأغنية أخرى.

كانت هناك آصرة فنية تنمو منذ البدء في خلدات المرشدي تجاه لحج، إذ لا يمكن لفنان مرهف مثل المرشدي أن يدير الظهر لينابيع الغناء اللحجي (الجديد)، وهي تغمر فضاءات الغناء في حاضرة العبادل، ويتردد صداها صدحاً في عروس البحار (عدن)، فلا عجب إذاً أن يكون لحنه الثاني أو الثالث هو (البدرية) للقمندان أحمد فضل العبدلي، ورغم أن اللحن لم يشنف أذني حتى اللحظة، إلا أنني متيقن أن المرشدي اللماح والذكي لابد وأن يضع بصمته اللحنية بعيداً عن اللحن الأصلي لـ "القمندان"؛ نقتطف أبياتاً من هذه القصيدة وهي على شاكلة الرباعيات:

طلعت بدرية بين الحسان بعيون سود

فتكت في القلب طعناً بسنان لحظها المحدود

كنت يا قلبي من العشق مصان من لظى الأخدود

فأتقيها بدموع العاشقين وأصحبْ الباكين

****

حرقت في الغيل أكباد الحدور كلهم مهيوش

لو مشتْ يوماً وظلت في الحرور أذعن المطنوش

والقريشي أسرت فيه الذكور من بني الشاؤوش

جلّ من أنشأ من ماء مهين حوريات عين

****

أدريتم كيف ذا الظبي سبى ذئب أهل البان

وأتى حيط الجبيلي فاختبى غصن في الأغصان

فتجلى بعدها ظبي الخبا وأتى سفيان

فتن السادة فيها أجمعين دخلوا في الدين

وتمضي "البدرية" على هذا المنوال المعقد والبعيد كل البعد عن التبسيط القمنداني المعهود في أغانيه، وهذا ما دفع المرشدي أن يطلب من جمعنا في منتدى "الأيام" بالقول:
- هل بالإمكان تنظيم ندوة هنا ليس عن القمندان بكلياته الموسيقية والشعرية وما خلفه لنا، ولكن بقصيدة واحدة فقط من قصائده المغناة وهي "البدرية".

ولأول مرة يلتفت الذهن إلى هذه القصيدة التي ما أن يضعها المرشدي مادة للنقاش حتى نكتشف تعقيداتها في (المعنى) الذي اكتضت سطوره بالإيحاءات المحلية والخارجية التاريخية، والسياسية؛ لنبحث في الطوايا الخفية وكنه "البدرية"، والإفصاح عن المتواري خلف رمزية "البدرية" لدى القمندان.

فبالإضافة إلينا نحن رواد المنتدى استجابت نخبة لحج المثقفة لدعوة "الأيام" يتقدم الجميع الأمير العبدلي أ. عبده عبدالكريم وآخرون ممن يشار إليهم بالبنان في ساح الإبداع والثقافة، واكتض الفضاء الضيق لـ "المنتدى" بالنقاش والمداخلات والاجتهادات والمرشدي الحاضر بيننا متابعاً ومعلقاً بعباراته المقتضبة المكثفة سعياً من الكل لإماطة اللثام عن سر القمندان المتخفي في "البدرية" الرمز الذي لم نصل إليه وإن كنا قد أحطنا بجوانبه وحواشيه بالشرح والتفسير؛ ولكن في نطاق الاجتهاد "ليس إلا" لتنتصر المقولة الشهيرة "المعنى في بطن الشاعر".

وفي الأخير تنفرج أسارير المرشدي وبلكنته المعروفة قال: "قد اجتمعنا مثل هذا الاجتماع ولذات الغرض قبل أكثر من عشرين عاماً لمناقشة (البدرية)، وبحضور كوكبة من المثقفين منهم أبوبكر السقاف، وعمر الجاوي، ولم نتوصل إلى معرفة مراد القمنداني من كلمة (البدرية)".

إن دخول المرشدي على الموشح اللحجي "صادت عيون المها"، هو تعبير عن الذات المرشدية الفنية بطبيعة الحال للغرف من كل مناهل الغناء اليمني في شرق هذه الأرض وغربها وشمالها والجنوب، فما بالنا والقمندان على مرمى حجر من عدن؛ بل هدف في عدن نفسها عندما يتعلق الأمر بالجذور والتاريخ والوجدان، لكن المرشدي يضع بصمته على الموشح دون إخلال بالنص وما يجعل من لحنه رديفاً ثرياً لموشح يريد به القمندان أن يقول: "نحن هنا، ولا ينقصنا في الغناء والتوشيح"، كما قال في "البدرية":

غَنْ يا هادي نشيد أهل الوطن غنِّ صوت الدان

ما علينا من غناء صنعاء اليمن غصن من عقيان

مرحباً بالهاشمي يجلي الشجن يذهب الأحزان

ومن البستان طيب الياسمين صاحب النسرين

وكما هو معلوم فإن مدخل "صادت عيون المها" من نظم الشاعر المبدع والفيلسوف صالح فقيه، يقول:

هل أعجبك يوم في شعري غزير المعاني

وذقت ترتيل آياتي وشاقك بياني؟

وهل تأملت يا لحجي كتاب الأغاني

ولا أنا قط صنعاني ولا أصفهاني

هل أسمعك فضل يوماً في الغناء ما أعاني

وكيف صاد المها قلبي وماذا دهاني؟

وأنت بالعود تتهنا وطعم المثاني

فهل دعاك الهوى يوماً كما قد دعاني؟

وكأن هناك اتفاق بين القمندان وصحبه، ومنهم صالح فقيه، على تأصيل غناء لحج بموشحها الخاص ليكتمل البيان الغنائي للحج العبادل.
وعلى ذكر الشاعر المبهر صالح فقيه صاحب "يا ضارب الرمل"، و "سقى الله روضة الخلان"، وفيها ما فيها من قول إبداعي غير مسبوق:

قتلني والقضاء براه *** لأن الفعل ذي أجراه

بلا قارح ولا دخان

وأرسل سهم من "عيناه" *** نفذ من غير ما شفناه

ولا حتى أثر له بان

تقولوا ما الذي أتاه *** ينزل من سماء علياه

طحس سكتة على رضوان

فالمرشدي كثيراً ما وجه إليّ التساؤل عن شعر صالح فقيه الذي دخل لحج فتىً يافعاً، وزامل القمندان، واستمر في دورة الغناء الثانية في لحج بعد وفاة القمندان لنظفر بقصائد لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة فقط، ومنها:
"مولى العيون الكحيلة"، و "قال بوزيد"، و "الدهر كله عمارة"، و "حبيبي غايتي المقصود"، و "شراحي".

وكان هو يعرف الكثير من خفايا حياة فيلسوف الأغنية اللحجية عندما كان في لحج أو بعد انتقاله إلى تعز حتى وفاته في السبعينيات الماضية، وبعد جهود مضنية استطاع الشاعر والأديب المعروف علي مهدي محلتي أن يصل إلى كنز صالح فقيه الشعري، وتنبري قلة من أدباء الحوطة في تنقيح وشرح وتقديم الديوان وطباعته ليخرج دون مستوى صالح فقيه، وما خلّفه لنا، وإن كان الجهد المشكور قد أخرج لنا صالح فقيه من طور المجهول، لكن نسخة المرشدي لم تصل إليه؛ لأنه ودعنا إلى بارئه العظيم في 2013/02/07م.

وعبقرية المرشدي اللحجية تتجلى في اختياراته الأدبية الثقافية والمعرفية الواعية في تلحين القصائد الفصحى والحمينية، كما يقول الفنان المبدع عصام خليدي، معتمداً على مقدرة فطرية لتركيب الجمل الموسيقية وتوزيعها مرتكزاً في صناعته اللحنية على صفاء ونقاء صوته ووضوح مخارج ألفاظه وإحساسه العميق بالكلمة ومدلولاتها.
وقد عمل خيراً الفنان الشاب والناضج ذو المقدرة النقدية والتحليلية للفن الغنائي في بلادنا عصام خليدي أن يستعرض ثنائيات "المرشدي" واختياراته الشعرية، وهو ما قد أجملناه سابقاً في كتاب ضم في دفتيه كل ما غناه الفنان المرشدي في حياته، وإن لم يلقَ هذا الكتاب طريقاً للمطبعة.

وكما وجدنا القمندان حاضراً منذ بواكير المرشدي اللجنة فإنه قد شكل ثنائياً رائعاً للفنان مع الشاعر الثائر عبدالله هادي سبيت بأغانٍ؛ مثل: "لا وين أنا لا وين"، و "ليه يا بوي"، و "با نجناه (القطن)"، و "يا بن الناس حبيتك"، و "سألتني عن هوايا"، و "يا عيدوه".. وغيرها من الأغاني والأناشيد الثورة التي شكّلت إيقاظاً للوعي الوطني للشعب في الجنوب.

فكان لحنه الخالد "ضناني الشوق" للشاعر المناضل ابن الوهط مهدي علي حمدون، واحداً من الأعمال الفنية التي ستظل خالدة في الذاكرة الموسيقية ليس لبلادنا فقط؛ وإنما للمنطقة العربية برمتها.

رحم الله المرشدي العملاق.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى