المرضى النفسيون في اليمن.. مجتمع لا يرحم ومعاناة لا تنتهي

> مبارك اليوسفي

> بيوت الدجالين تعج بالمرضى النفسيين لربط المرض بالجن والعين والحسد
تعرض محمد جمال، (26 عاماً) لصدمة نفسية جعلته يعاني من حالة نفسية لفترة طويلة، ورجح الطبيب المعالج أن تكون الحالة جاءت نتيجة إهمال في الجانب الوجداني وحجم التراكمات النفسية المسبقة.
يعتبر المرض النفسي واحداً من الأمراض المعقدة في العالم، ففي حين يرى بعض الناس أنهم قادرون على تجاوز كل الأزمات النفسية، يعتقد الكثير من الناس في اليمن أن المرض النفسي جنوناً ليس له أي حل.

والمرض النفسي أو العصاب هو "اضطراب في الشخصية واضطراب عصبي وظيفي غير مصحوب بتغيّر بنيوي في الجهاز العصبي. ترافقه، في كثير من الأحيان، أعراض هستيرية وحصر نفسي، وهواجس مختلفة".
وقد تؤثر الحروب والأزمات والفقر والأوضاع المأساوية سلباً على الحياة النفسية للإنسان، وهذا شيء طبيعي، حسب قول د. عبدالله الشرعبي، الطبيب المتخصص بالجانب النفسي، ويؤكد أن الوضع الذي تمر به اليمن لا شك أنه سيضاعف الحالات النفسية.

ليس جنوناً
لفترة طويلة ظل محمد جمال يعاني من توصيفه بالجنون من بعض الناس نتيجة تدهور حالته النفسية، وبجانب محمد يفترش مئات المصابين بالأمراض النفسية المستعصية، بينهم نساء، أرصفة الشوارع، حيث يلجأ بعضهم إلى التسول، فيما يقتات البعض الآخر من النفايات.
ويخلط كثير من الناس بين المرض النفسي والعقلي، حيث يعاني الكثير من المرضى النفسيين من اتهامات المجتمع لهم بالجنون، مما يجعل حالتهم تتدهور أكثر فأكثر.
جلسة سحر وشعوذة
جلسة سحر وشعوذة

ويفرق اختصاصيو علم النفس بين المريض النفسي والعقلي "المجنون" بأشياء كثيرة من حيث: أن المريض النفسي يعي مرضه أو ما به من حالات نفسية غير سوية، كما يعي جيداً سلوكه ونشاطاته الفردية والاجتماعية. فعلى سبيل المثال، المصاب بالهلوسة (وهي انحراف بالحس والإدراك) قد يرى أو يسمع أشياءً لا وجود لها في الواقع، إلا أنه يعلم جيداً أن هذه الأشياء التي يسمعها أو يراها لا وجود لها، لذلك يكون سلوكه طبيعياً وعادياً.

أما المريض العقلي فهو بالعكس، فقد يرى أو يسمع أشياءً لا وجود لها ولكنه يقتنع فعلاً بوجودها وهذا ما يميزه عن المريض النفسي، ويكوّن بموجب ذلك سلوكه ونشاطه وحركاته. ففي بعض أنواع الجنون يقول المريض بها، إنه يسمع صوتاً أو يرى قادماً من بعيد، لذلك فهو يصغي لهذا الصوت أو يجيب عن أسئلة وهمية أو يخاطب هذا الصوت غير الموجود. كما أنه قد يتقدم لمقابلة أو للهجوم على القادم أو يشير إليه.

إن المجنون هنا يظن وجود أشياء غير موجودة ويبني سلوكه على هذا الفصام، وهو نوع من الجنون، يكون المريض منطوياً على نفسه، جامداً يهمل حاجياته الغريزية، إلا أنه ينقلب أحياناً إلى وحش فيهجم ليقتل طبيبه أو الممرض، أو من يقع تحت يديه، بسبب ظنه أن هذا يريد به سوءاً.

إحصاءات مخيفة
يعتبر محمد واحداً من الحالات النفسية المستعصية، وتشير تقديرات غير رسمية إلى نحو 1.5 مليون يمني يعانون من حالات نفسية مستعصية، يعيش الكثير منهم في ظروف بيئية صعبة بعيداً عن الاهتمام، وتشير دراسة حديثة أعدتها مؤسسة التنمية والإرشاد الأسري في صنعاء، إلى أن (195) شخصاً من كل ألف يمني يعانون من ضغوط واضطرابات نفسية حادة.

ويرى اختصاصيون في الجانب النفسي أن الصراعات في اليمن والنزوح وزيادة الفقر فاقمت عدد الحالات المصابة بالأمراض النفسية، ويعتبر محمد نموذجاً لنحو 5 ملايين و455 ألفاً 347 من المتضررين نفسياً بسبب الحرب، بحسب دراسة أعدتها مؤسسة التنمية والإرشاد الأسري في اليمن، في حين أكد اجتماع مناصرة قضايا الاستجابة النفسية والاجتماعية للمتضررين من الحرب في اليمن أن ملايين اليمنيين بحاجة ماسة إلى رعاية صحية ونفسية بسبب وطأة الحرب.
جلسة سحر وشعوذة
جلسة سحر وشعوذة

ويضيف د. إسلام الأرياني (طبيب نفسي): "إن الحرب عملت على زيادة حالات الإصابة بالأمراض النفسية خصوصاً مع الضربات الجوية القريبة من المدن والمناطق المأهولة بالسكان"، مؤكداً أن الحالات ارتفعت خلال فترة الحرب على اليمن إلى 200 % وتتنوع هذه الحالات بين الإصابة بالرهاب الشديد والفوبيا والفصام وأمراض نفسية أخرى ناتجة عن غارات الطيران الفجائية وتوقف الناس عن العمل والعزلة التي لحقت بأغلب العاملين خلال الحرب.

وفي نفس السياق، تؤكد دارسة أعدها مركز صنعاء بالتعاون مع عيادة حقوق الإنسان في كلية الحقوق بجامعة كولومبيا ومدرسة ميلمان للصحة العامة، أن اليمني البالغ من العمر 25 عاماً عاش بالفعل 14 نزاعاً مسلحاً متفاوت التأثير في حياته، وهذا يؤثر سلباً على نفسية الشاب.

تأثير نفسي على الأطفال
تقول د. زهرة جميل: "إن هناك آلاف المصابين بأمراض نفسية نتيجة الحرب في اليمن، وخاصةً الأطفال، تتنوع تلك التأثيرات ما بين خفيفة تبدأ بالرهاب والخوف الطبيعي وتتطور تدريجياً حتى تصل إلى مراحل معقدة".
مشعوذ قبض عليه بعدن
مشعوذ قبض عليه بعدن

ومن جانب آخر، أظهرت دراسة لمنظمة "يمن لإغاثة الأطفال" أن أطفال صنعاء وعدن وتعز وأبين، يعانون من ارتفاع مهول في مشاعر الخوف وانعدام الأمن والقلق والغضب، حيث عانى 31 % من الأطفال في الدراسة من أعراض جسدية بما في ذلك الصداع وألم الصدر والبطن والإرهاق التي اعتبرها الباحثون مؤشرات على وجود ضائقة نفسية.

وقد لاحظت دراسة المنظمة تمايزاً واضحاً في شدة الأعراض النفسية بين المحافظات يعادل تقريباً كثافة النزاع في مختلف المناطق، وبحسب إفادات لآباء فإن الآثار النفسية تختلف من طفل لآخر، حيث إن 5 % من الأطفال يعانون من التبول اللاإرادي و2 % عادوا إلى التأتأة و47 % يعانون من اضطرابات نفسية و24 % لديهم صعوبة في التركيز و17 % يعانون من نوبات هلع.

عدم الاهتمام
يفتقر اليمن إلى المستشفيات الحكومية المتخصصة بالعلاج النفسي باستثناء مستشفى الأمل في صنعاء، الذي يدار بالشراكة مع القطاع الخاص، بالإضافة إلى ثلاث مصحات نفسية مهملة في محافظات الحديدة وعدن وتعز، وفقاً لـ د. عبدالله القيسي، مسؤول التعليم المستمر بمستشفى الأمل للطب النفسي في صنعاء، مؤكداً أن عدد الأطباء النفسيين في اليمن لا يتجاوز 50 طبيباً.

فيما تستغل بعض العيادات الخاصة أوضاع المرضى وعدم الاهتمام بهم، في ظل عدم وجود رقابة على أداء عمل تلك العيادات، ويقول محمد جمال (مريض نفسي) إنه ارتاد أكثر من عيادة خاصة لكن عمل العيادات تلك قائم على بيع العلاجات للأمراض والإدمان عليه وهذا يدل على أن العيادات تلك فتحت فقط لأجل الربح.
ووفقاً لمسح أجرته منظمة الصحة العالمية، فإنه من بين (3.507) منشأة صحية في اليمن تبقى الخدمات المتعلقة بالأمراض النفسية فيها غير متوافرة إلا بنسب قليلة.

بين الطب النفسي والدجل
يقول محمد جمال إنه في بداية تعرضه لتلك الصدمة النفسية استغل بعض الرقاة حالته، مُدّعين أنه أصيب بحالة مس شيطاني، وقال آخر إنه أصيب بعين، هذا ما قد تبين للمجتمع المحيط به واستسلم للأمر هو أيضاً.
وتمتلئ بيوت الدجالين بالمرضى النفسيين نتيجة الاعتقاد السائد بارتباط المرض النفسي بالجن والعين والحسد، حيث يفضل الكثير من المرضى التوجه للدجالين بدلاً من زيارة دكتور الأمراض النفسية، ظناً منهم أن المجانين من يقصدون تلك المصحات.

وفي السياق ذاته، يقول د. محمد الطشي (استشاري أمراض نفسية): "إن الحسد والسحر والعين موجودون في الثقافة الشعبية والحكايات القديمة وهذا المجتمع متأثر كثيراً بها ولا توجد أي علاقة بين المرض النفسي والأوهام الروحية"، موضحاً أن السبب وراء ذلك يعود إلى ربط المجتمع بين الأمراض النفسية والأوهام الروحية وهي عبارة عن محاولة ربط بعض الناس بين المفهومين.

أخيراً.. لا تحصد الحرب المستعرة والمتواصلة في اليمن من تصيبه القذائف والصواريخ والزنازين فحسب، إنما تستهلك طاقة البلاد وبنيتها التحية ومؤسساتها الحيوية، وتترك الفئات الضعيفة والأكثر ضعفاً بعيدة عن الوصول إلى الخدمات التي من شأنها أن تسعفهم وتنجدهم من أزماتهم المختلفة، بما فيها الأمراض الجسدية والنفسية والعقلية.

"نونة بوست".

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى