هل تعويض السودان لضحايا المدمرة "كول" جنوب اليمن تلغي قضايا الإرهاب

> محمد أبوالفضل

>

تواجه الحكومة السودانية تحديات صعبة في معالجة الآثار المادية والمعنوية التي ورثتها عن نظام الرئيس السابق عمر حسن البشير، والتي تتجاوز حدود الأضرار الناجمة عن انتشار التوترات والصراعات والنزاعات في مناطق مختلفة، والأزمات السياسية الاقتصادية والاجتماعية التقليدية. فقد وجدت الحكومة نفسها أمام تركة ثقيلة، وتحاول مداواة ما تستطيع مداواته وفقا لأولويات المرحلة الانتقالية التي تتطلب إيجاد حلول ناجعة وسريعة لجملة من المشكلات، خوفا من أن تستغل بعض الجهات المتربصة الأوضاع القلقة.

توافقت أركان السلطة، الحكومة ومجلس السيادة، في الخرطوم على منح اهتمام كبير بمسألة رفع اسم السودان من اللائحة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، باعتبارها المفتاح الرئيسي لتخطي الكثير من الأزمات، الداخلية والخارجية، السياسية والاقتصادية، الأمنية والاجتماعية.

وشرعت في اتخاذ مجموعة من الخطوات التي تقرّبها من تسوية واحدة من القضايا المتشعبة التي لها جوانب متفرقة، وتتطلب ليونة عالية في مسألة التعويضات لأسر الضحايا في الجرائم الإرهابية التي قيل إن النظام السوداني تورّط فيها مباشرة، لكن هل الأموال الطائلة التي يمكن أن تدفعها الخرطوم سوف تلغي التداعيات السياسية، أم تفتح المجال لملفات أخرى لا تقل أهمية وحساسية عن الملفات ذات العلاقة بالتقديرات الأميركية؟

باب التعويضات

أعلنت الحكومة السودانية، الثلاثاء الماضي، التفاوض مع أسر ضحايا تفجيري سفارتي الولايات المتحدة في كل من كينيا وتنزانيا عام 1998، للتوصل إلى تعويض معقول. ففي الـ28 من يونيو الماضي وافقت المحكمة العليا الأميركية على مراجعة دعوى بإعادة نظر قضية تطالب بعقوبة مالية تبلغ 4.3 مليار دولار على السودان، لاتهامه بالتواطؤ في تفجيرات نفذها تنظيم القاعدة استهدفت سفارتي واشنطن في نيروبي ودار السلام، وأسفرت عن مصرع 224 شخصا، والتي أنكرتها الخرطوم في عهد البشير، وتنصلت من تبعاتها.

تريد الحكومة أن تتبع النهج ذاته الذي مضت فيه مؤخرا لمعالجة قضية أسر ضحايا المدمرة الأميركية "يو إس إس كول" عام 2000 في ساحل ميناء عدن بجنوب اليمن، ووافقت على دفع 30 مليون دولار كتعويض لهم. لذلك تسعى للتفاوض مع أسر ضحايا تفجيري السفارتين في نيروبي ودار السلام بهدف التوصل إلى تعويض تتمكن من الوفاء به، لأن المبلغ المطلوب سابقا (4.3 مليار دولار) باهظ جدا، وتعمل للتوصل إلى صيغة تمكّنها من دفع مقابل مادي مناسب تغلق به هذه القصة.

يرى البعض أن السلطة الانتقالية في السودان سمحت بفتح باب قد لا تستطيع إغلاقه مستقبلا، وربما يقود إلى سلسلة من الحوادث التي أشارت أصابع الاتهام فيها إلى الخرطوم. ففي خضم الجري وراء رفع اسم البلاد من اللائحة الأميركية للإرهاب، باعتباره الحل السحري لغالبية الأزمات، يمكن أن تتورط الخرطوم في مشكلات أخرى، فالقائمة طويلة وملف الجرائم التي ارتكبها النظام السوداني السابق مليئة بالشواهد والمطبات والعراقيل، والقليل منها يبدو ظاهرا، والجزء الكبير لا يزال غاطسا.

تستطيع الحكومة تسوية الأزمة مع الولايات المتحدة على قاعدة التفاهم حول التعويضات، وتتمكن من تحقيق غرضها في فتح أبواب ونوافذ المساعدات والاستثمارات الخارجية وتطبيع العلاقات مع المجتمع الدولي، والتأكيد أن هناك مرحلة جديدة ولدت في السودان، وترسيخ قناعات جهات كثيرة بقطع الصلة مع الماضي وكل ما ينطوي عليه من مرارات واحتقانات تسببت فيها الحركة الإسلامية التي هيمنت على مفاصل القرار، حتى تورّطت أذرعها العسكرية بالتفاهم طبعا مع أذرعها السياسية في ارتكاب جرائم اعتقدت في صعوبة كشفها أو استحالة الوصول إليها وتثبيت التهم عليها.

تستطيع الحكومة أيضا إثبات عدم مسؤوليتها عن ذلك. غير أن مناقشة التعويضات الأميركية والعمل بها يمكن أن يؤدي إلى تكراره في جرائم أخرى، تورط فيها النظام السوداني السابق، وأبرزها محاولة اغتيال الرئيس المصري الراحل حسني مبارك في أديس أبابا عام 1995، وما تلاها من أدلة أثبتت تورط قيادات سياسية كانت في سدّة الحكم في ذلك الوقت.

إذا تجاوزنا عن عدم استعداد النظامين الحاكمين حاليا في كل من مصر وإثيوبيا عن التطرق لهذا الملف أو إثارته على نطاق واسع لاعتبارات العلاقات الطيبة مع الخرطوم، فما هو المانع الذي يجعل دولا أخرى تقدم على توظيفه سياسيا، لأن نظام البشير استقبل على الأراضي السودانية العديد من القيادات الإسلامية المتشددة، مثل أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة، والشخصيات الملاحقة عالميا، مثل الفنزويلي كارلوس.

ناهيك عن قيادات متطرفة ارتكبت جرائم في دول عديدة، وهناك أدلة على أنها عاشت وتلقت تدريبات في السودان وهرّبت أسلحة عبر حدوده الممتدة مع دول الجوار. وبعضها صدرت بحقه أحكام قضائية في دوله الأصلية.

يمكن أن يكون تعاون الحكومة السودانية في ملفات مثيرة من هذا النوع مفيدا لها ويثبّت أقدامها في خانة من يريدون التأسيس لأنظمة حكم رشيدة ومدنية وديمقراطية في المنطقة. وهو ما يفرض عليها التعاون لأقصى مدى إذا جرت إثارة هذا الموضوع بصورة واسعة، وتحمّل تكاليفه الداخلية، لأن التعويضات أو التسليم بالعمليات الإرهابية التي ارتكبت في عهد النظام السابق سوف تتولد عنها تبعات كثيرة، لأن هذه جرائم لا تسقط بالتقادم.

لا يزال ملف الهولوكوست يدغدغ المشاعر وتتم الاستفادة منه سياسيا، ويُفتح ملف الأرمن من حين إلى آخر ويجلب العار لتركيا التي تصر على إنكاره تماما، لأنها تعرف أن التسليم به أو الاعتذار عنه سوف يفضي لخسائر متعاظمة.

ومع الاعتراف بالفارق الكبير بين هذه الملفات، لكنها في النهاية تصبّ في بوتقة واحدة، سواء أكانت كبيرة أم صغيرة، ولا توجد ضمانات على أن التعويضات كفيلة بإغلاقها بشكل نهائي. فقد رأينا أن ليبيا دفعت تعويضات باهظة لأسر ضحايا الطائرة لوكيربي، وظل البعد السياسي ثابتا لم يمح تماما حتى نهاية حكم العقيد الراحل معمر القذافي، وبقي كابوس لوكيربي وشبحه يطاردانه.

كما أن قضية الإبادة الجماعية في دارفور مفتوحة على مصراعيها، وأبدت الحكومة السودانية موافقة مبدئية على تسليم المتورطين فيها للمحكمة الجنائية الدولية، بمن فيهم الرئيس المخلوع عمر البشير. وإذا بلغ سيناريو المحكمة محطته النهائية فمن المرجح أن تكون هناك تعويضات أيضا لأسر ضحايا هذه الإبادة، فمن سيتولى دفعها؟  وغالبا سوف تجد الحكومة السودانية نفسها وجها لوجه أمام هذه المعضلة.

حق المجتمع

علاوة على النتائج الداخلية العميقة التي لن تقل ضراوة عن نظيرتها الخارجية، فالاعتراف بدفع تعويضات لأسر ضحايا المدمرة الأميركية، وتدمير سفارتي نيروبي ودار السلام، أو غيرهما، يؤدي إلى زخم شعبي يطالب بتقديم الجناة الحقيقيين للمحاكمة في السودان أو غيره، لأن الوفاء بالحق المادي لا يعني غض النظر عن الحق المعنوي، أي حق المجتمع.

ومن هنا تفتح السلطة الانتقالية جبهة دقيقة ربما تفرض عليها مساءلة القيادات التي تورطت في جرائم ارتكبت على مدار ثلاثة عقود خلال عهد البشير.

قد يمثل تعدد الجرائم والأشخاص مشكلة أمام الحكومة التي تخوض حربا شرسة ضد رجال النظام السابق، وتحتاج إلى آليات محكمة وصارمة للتعامل معهم، وسد الثغرات التي تجعل بعضهم يتسلل إلى قلب السلطة وعقلها بذرائع مختلفة، الأمر الذي فهمه قطاع كبير من المواطنين على أنه عجز أو تقاعس في المحاسبة القانونية، وأنتج إسقاطات سياسية خلفت شعورا لدى البعض يشير إلى عدم استعداد الحكومة للذهاب إلى المدى الأخير في قضية التعويضات. فهي ظهرت أصلا لغلق ملفات خارجية ورفع عقوبات أميركية، وليس لمواجهات داخلية. ولذلك مرجح أن تظهر مفاجآت سياسية في ملف التعويضات.

كاتب مصري / العرب

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى