التبكيت و التنكيت.. سعيد عولقي نموذجا

> د. هشام محسن السقاف

>  لا نستطيع أن نلم بكليات و تفاصيل سعيد عولقي الصحافي الساخر والأديب المثقف والمؤلف المسرحي الذي يملئ فضاءات من الكتابة (النقش) محفورة تظل في ثنايا العقل و عمق الوجدان لأبعد مدى في العمر.
  صغاراً حين تبدأ الفطنة بتلمس خارطة الكتابة في صحف الدهر الاشتراكي القصير في عدن، سوف لن تتجه العين لقراءة الصفحات الطوال التي يراق فيها حبر كثير لمنظرين ينتزعون من كلاسيكيات اشتراكية مفردات أيديولوجية باردة لازمت تجربة أوروبية بعد (بيان الحزب الشيوعي) الذي صاغه انجلز و ماركس وكان تعسفا أن يوائم طبائع الناس في عدن الحارة.

  كنا نشم عن بعد مفردة الكتابة الصحفية عند العولقي غير ملتزمة إلا للعولقي نفسه وما يريد أن يقول. وكان بإمكانه أن يجعل مقالته (حصان طروادة) يرفع من رصيد القراءة في الصحيفة اليومية الوحيدة. كان بإمكانه ذلك؛ وبمقدرته المعرفية العفوية أو الفطرية أن ينتزع (الضحكة) من الأعماق بدون ثمن ولا استئذان.
عندما قرأت، يومئذ، مقالته (الوفود الزنجبيلية) عرفت كيف يرتقي الكاتب الساخر بأدواته الفنية ليجعل من الشخوص ذوي البدلات الرسمية الزرقاء صورا ( كاريكاتورية ) مضحكة وهي في مهمة رسمية لشراء الزنجبيل من الهند دون أن ينسى العولقي أن يدل هؤلاء أن هناك الـ (كشي) في المعلا لديه ما يبغون بدلاً من رحلة (ابن بطوطة) هذه وأن هناك (التليكس) ، أيامها، يستطيعون من داخل الوزارة طلب ما يشاؤون من الهند وهم في وزارتهم جالسون.

  ذكرتني مقالة العولقي بأسلوب (تشيخوف) العملاق في تحريك شخوص قصصه الرائعة لتغدو (الملهاة) بعد أن تستنفذ طاقتها من رصيد ضحك القارئ (مأساة) تذر دموع المآقي دون رخصة.
ثم لا نجد صعوبة في تفسير اصطفاف العولقي في الكتيبة (العمرية)، نسبة إلى عمر الجاوي، التي ضمت خير من يمثل أدباء تلك المرحلة، حيث الانحياز الكامل للوطن وناسه، رامين وراء ظهورهم التزامات (الأيديولوجيا) في عدن وتزمت العقل القبلي المتحجر في صنعاء. كنا نجده بالقرب من الجاوي وأبوبكر السقاف والقرشي عبدالرحيم سلام و د. عبدالرحمن عبدالله إبراهيم وغيرهم كثير.

 أما مسرحية (التركة) وهي أنموذج للتأليف المسرحي الواقعي بمقدرة فن التبكيت من التنكيت إذا صحت العبارة، ففيها تتفاعل الناس ضحكاً مع كل بادرة حركة أو قول يقوله الفنان الكبير (المسيبلي) وصحبه من الفنانين في (التركة) دون أن تفتر همة الضحك حتى اليوم، ودون التفات طويل لمحتوى المسرحية الناقد والراصد لفترة ما بعد الاستقلال الوطني وصعود موجة اليسار في عدن.

يذكرني ذلك بمسرحية تشيخوف (بستان الكرز)، حيث المشهد الدرامي يقودك إلى طبيعة التحول القادم في روسيا القيصرية وكأنه يسير بتلقائية ودون تدخل مرئي تعسفي من الكاتب نفسه مع أنه هو صانع الأحداث كلها في المسرحية.
أما العولقي الكبير عندما يريد أن (يتفكه) عن الوحدة اليمنية وهو على مقربة من الجاوي وعلى صفحات (الحكمة) ذاتها وعلى ذات الطريقة التي عبث بها بوفود الزنجبيل؛ من خلال  قص فكاهي رائع لازال يسكنني حتى الساعة أسماه (أولاد المانجو.. والوحدة)، إن لم تخن الذاكرة، عندما غزت بضاعة هائل سعيد من بسكويت وعصائر عدن وكان الأطفال يتهافتون عليها وهي إحدى أحابيل الشمال لاستدراج الجنوب من خلال (الكرتون) بدينار.

هذا بعض من وجوه سعيد عولقي الإبداعية؛ تلقاه طوفانا هادرا في الكتابة الصحفية والقصصية والمسرحية يمازج الضحك بالدموع والجد بالهزل ليصل إلى ذروة الدراما الإنسانية. وتظن قبل أن تراه أنك سترى رجلاً يحلق بجناح الزهو والخيلاء لن يدع لك مجالاً حتى لتتطلع بناظريك إليه، بينما الحق، كل الحق، أنك سترى أخلاقاً عالية وراقية تدب على قدمين وتفصح عن إنسان يتكامل فيه التواضع النبيل.

تفاجأت بالعولقي حين جمعتني به صحبة أليفة في دار «الأيام» برجل من عصر الفرسان مقل في الكلام تعلو وجهه ابتسامة قبل أن يتكلم وإن تكلم فكأنه يقول: «لا تهرف بما لا تعرف».
سلام عليه وهو قد توارى عن صخبنا الكبير والكثير بجلسة تأمل وتفكير في بيته المتواضع.
  متعه الله بالصحة وراحة البال .

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى