الحرب تنهك اليمنيين.. البحث عن الخلاص الفردي

> تقرير/ صادق عبدالحق

> غادر مراد جبهة القتال في الحدود مع السعودية متخفيّاً إلى منزله، ثمّ غادر البلد برمته في رحلة اغتراب لا يبدو أنها ستنتهي قريباً. أصيب مراد بجروح كادت أن تسبّب له إعاقة دائمة، نتيجة ما قال إنه إهمال مشرف الجبهة من جماعة "أنصار الله" (الحوثيين)، وبحث القيادات عن تسجيل انتصارات شخصية، عبر دفعهم المقاتلين إلى الجبهة من دون استعداد كاف، ولا تدريب حقيقي، حتى يستطيع مشرفهم تسجيل مقطع فيديو لأي إنجاز حققوه، على الرغم من بقائه في مأمن أثناء المعركة التي قتل فيها كثيرون من زملاء مراد بلا نتيجة تستحق، حسب رأيه.

كان مراد قد تحمّس للقتال في الحدّ الشمالي، بعد مقتل أحد أصدقائه المقربين بطيران "التحالف العربي" هناك، وأبدى قناعة شديدة بأنّ جماعة "أنصار الله" تدافع عن قضية وطنية، طالما هي تقف ضدّ السعودية. ولكن بعد أن عاين واقع الجبهة بنفسه، وتعرّض للإصابة، وقتل المزيد من زملائه أمام عينيه، قال إنّ خطاب الجماعة لا يتطابق مع ممارساتها، وإنّ جميع الأطراف يدافعون عن مصالحهم، ولا تهمهم اليمن، وبالتالي فقد بحث عن فرصة حياة مختلفة خارج اليمن، ولم يعد مهتماً بالانخراط المباشر في الصراع. ويقول لـ "العربي الجديد" بخيبة واضحة: "كنت أبحث عن وطن، وليس عن القات والشمة التي يوزعونها على المجاهدين الأبرياء، والآن لم أعد أثق بأحد، ولست مهتما بشيء إلا مستقبلي".

ليس مراد وحده من تغيّر موقفه بهذه الحدة بين بداية الصراع في اليمن، وما آل إليه اليوم، إذ يبدو أنّ طموحات اليمنيين قد تراجعت من البحث عن خلاص جمعي للبلد إلى البحث عن الخلاص الفردي كل على حدة. فمع مرور الأيام، يفقد اليمنيون قدرتهم على الغضب تجاه كل السلبيات التي فرضتها أطراف الصراع، ويخسرون شغفهم بمتابعة التطورات من حولهم، جراء ما أصابهم من خيبة ويأس أمام وضع بلدهم المعقد، وطول الصراع الذي تحول إلى تجارة خاضعة لمصالح الأطراف المتصارعة وحلفائها الإقليميين والدوليين، وجراء ما كشفت عنه تطورات الصراع، من تواطؤ في ظلّ ما يجري من إفشال التوصّل إلى حسم عسكري أو حلّ سلمي.

على الطرف الآخر، تسلم مجاهد الذي قاتل لشهور طويلة في جبهة صرواح بمحافظة مأرب إلى جانب القوات الحكومية المناهضة للحوثيين، آخر مبلغ من المرتبات المتأخرة له، وذهب إلى محافظة حضرموت لفتح مطعم صغير يكسب منه نفقات معيشته وأسرته. لكن تأخير المرتبات لم يكن دافع مجاهد لترك جبهة القتال، بل اكتشافه أنّ المعركة لا تجري بشكل حقيقي، وأنّ التحالف يمنعه وزملاءه من التقدّم أو السيطرة على أي موقع للحوثيين، إلا بعد موافقته التي لا تأتي أبداً. وعندما حاول زملاؤه المغامرة بالتقدم جاء طيران التحالف لقصفهم، بكل بساطة، وفق قوله.

ويقول مجاهد لـ "العربي الجديد" بألم، وكمن اكتشف العلاج بعد أن مات المريض: "التحالف لا يهمه كم مات منا، فليس هدفه أن ننتصر، بل أن تتحول جبهات القتال إلى مقابر لليمنيين من الطرفين"، متهماً قيادات الحكومة الموالية لهادي، بأنها تكتفي بالمبالغ التي تسرقها من دعم التحالف، وتأمين مستقبل أبنائها، لكنها لا تمتلك الشجاعة لكشف الحقيقة لأنها متورطة في الفساد، والأفراد هم الضحايا وحدهم.

كثيرة هي نماذج الخيبة والانسحاب من المشاركة في الحرب، لكن الأسباب دائماً متشابهة، وتتعلّق بالفساد، وعدم الجدية في المعركة، وكذلك عدم التوافق بين الخطاب المعلن والممارسات على الأرض، من قبل الأطراف اليمنية والتحالف أيضاً. وإذا كان المقاتلون هم الأشدّ تحمساً وتشدداً في مواقفهم لصالح هذا الطرف أو ذاك، فإنّ تلاشي هذه الحماسة بهذه الحدّة، يجعل تراجع حماسة غير المقاتلين أيضاً أكثر احتمالاً.

رفض حامد تولي أي منصب تحت سلطة الحوثيين في مؤسسته الإيرادية في صنعاء، لأنه يعتبر ذلك اعترافاً بطريقتهم غير المشروعة التي سيطروا بها على مؤسسات الدولة، لكن انتظاره لعودة الشرعية، والحكومة المعترف بها دولياً، طال، وأصبح التعويل على ذلك ضرباً من السذاجة. لهذا، قبل حامد أخيراً العمل تحت سلطة الحوثيين، ليس حباً بهم أو اعترافاً بشرعيتهم، ولكن لأنه فقد الأمل في عودة الشرعية، وخاف أن يكون ضحية انتظارها، خصوصاً أنه فقد مصدر دخله، بينما يمكنه من خلال العمل مع "أنصار الله" الحصول على دخل شهري مجز، نظراً لطبيعة عمل مؤسسته، كما يوضح لـ "العربي الجديد". وكانت هذه طريقته في البحث عن خلاصه الفردي، من دون انتظار خلاص جمعي ليس هناك مؤشرات على اقترابه حالياً.

الحماسة المتزايدة لحديث الشرعية عن استعادة صنعاء، تحوّلت مع الوقت إلى موضوع للسخرية مع بقايا أمل باحتمال حدوث ذلك، ثمّ تلاشى ذلك الأمل وغاب الاهتمام، وتحول الناس إلى اللامبالاة. ويظهر ذلك من تراجع الاهتمام بمسألة تنشيط الجبهات الجامدة بين وقت وآخر، كما حدث في نهم والجوف أخيراً، وتبادل الاتهامات بالخيانة والتقصير بين مكونات الشرعية والتحالف بعد سقوط المنطقتين في يد الحوثيين. في السياق، يقول أستاذ جامعي معارض للحوثيين في صنعاء، لـ "العربي الجديد": "الجماعة نشطوا الجبهات بداية العام ليتسلموا الموازنة من التحالف، ولو أنّ هناك جدية لاستعادة صنعاء، فإنّ القتال بعيداً عنها يعدّ مجرّد محرقة لرجالنا. إنهم يقاتلون في المكان الخطأ، كيف نثق بالتحالف وهو يقصف جنود الشرعية، وكيف نثق بالشرعية وهي منشغلة بمعارك جانبية؟". النتيجة الوحيدة لكل هذا حسب حديثه، هو "تعزيز سلطة الحوثيين، والسعودية الآن تفاوضهم لتأمين حدودها، وسيعملون مع من يدفع"، خاتماً بالقول: "الأوطان تحتاج إلى رجال لا إلى سماسرة".

حتى وقت قريب، كانت مؤشرات غضب اليمنيين من ممارسات الحوثيين، وفساد الشرعية، وتصرفات التحالف تطفو على السطح في مواقع التواصل الاجتماعي بشكل رئيسي، لكن ملامح الغضب هذه تكاد تقتصر حالياً على المنخرطين في الصراع بشكل مباشر، أو أصحاب المصالح منه. أما المواطن العادي، فقد خبت حماسته، وتصاعدت خيبته، وأصبح أكثر حذراً من تسجيل مواقف قد تؤثر على سلامته، لكنها لن تغير الواقع.

الأمر نفسه ينطبق على ما تمّ نشره من معلومات عن فساد المنظمات الدولية، وعن عرقلة الحوثيين لتوزيع المساعدات الإنسانية، وحصول شخصيات من الجماعة في المجلس الأعلى لتنسيق المساعدات على مرتبات شهرية بآلاف الدولارات من المنظمات الأممية، وعن تعيينات الرئيس عبد ربه منصور هادي لأبناء وأقارب مسؤولي حكومته في مناصب مختلفة، وحتى صمته الغريب عند سيطرة الحوثيين على نهم والجوف، لم يعد يثير غضب أو تفاعل اليمنيين كالسابق، وتحول إلى مصدر للخيبة الصامتة والعميقة.

خذلان الشرعية، وقمع الحوثيين، وتلاعب التحالف، أدت مجتمعة إلى انصراف المواطن العادي إلى شؤون حياته وتدبير نفقات أسرته، وتجنب التصرفات التي قد تعرضه وأسرته للمتاعب. لقد كيّف المواطنون أنفسهم للتعايش مع فساد الحوثي لعدم قدرتهم على التعبير عن رفض ذلك من دون مخاطر، واعتادوا على خذلان هادي في السياسة والحرب، لدرجة لم يعودوا قادرين معها على الثقة به والتعويل عليه، واكتشفوا تلاعب التحالف بهم وعمله لأهداف لا تخصهم مع مرور الوقت، فتركوا التفاعل مع المشهد العام، باستثناء تبادل مشاعر الخيبة داخل الدوائر المقربة والموثوقة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى