البوابة إلى الجنوب.. تعز أكثر المدن اليمنية تتقاطع فيها تعقيدات الصراع الإقليمي

> قيادات عسكرية وأمنية تقود عصابات مسلحة وراء الانفلات الأمني والاغتيالات

> ماجد المذحجي

لا تقتصر الحرب في اليمن على نزاع بين طرفين، وحسب إذ يسود المشهد عدة صراعات فردية وتعاوناً بين مختلف الجهات الفاعلة المحلية والإقليمية، وتبرز محافظة تعز كأكثر منطقة يمنية تتقاطع فيها هذه التعقيدات. تعتبر تعز عاصمة اليمن الثقافية فسكانها متعلمون تعليماً عالياً ومنخرطون بكثافة في المجال السياسي. كما أنها محافظة ذات أهمية إستراتيجية كبيرة، فهي تقع على ساحل البحر الأحمر، وتمتد من الوسط إلى الغرب والجنوب الغربي لتشمل مدينة وميناء المخا، وتصل إلى مضيق باب المندب. ينظر إلى تعز على أنها بوابة نحو جنوب اليمن، وبالتالي شهدت معارك عنيفة على خطوط المواجهة بين قوات الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، والمدعومة من التحالف بقيادة السعودية والإمارات، وجماعة الحوثيين المسلحة. تنقسم السيطرة على محافظة ومدينة تعز نظرياً بين هؤلاء الطرفين، ولكن إلقاء نظرة فاحصة يكشف عن وضع أكثر تعقيداً.

الخطوط خلف الخطوط الأمامية
المناطق التي تسيطر عليها الحكومة اليمنية شكلياً هي في الواقع مقسمة بين عدة أطراف. تسيطر قوات طارق صالح، ابن شقيق الرئيس السابق علي عبد الله صالح والمقرب من الإمارات، على مدينة المخا وكامل الجزء الساحلي التابع لمحافظة تعز. وتسيطر قوات الجيش الوطني التابعة لحزب الإصلاح على مدينة تعز، وتتواجد بجوارها مليشيات يقودها الشيخ حمود المخلافي، وهي ممولة ومدعومة من الثنائي العماني القطري. بينما يسيطر اللواء 35 مدرع، المقرب من الحزبين الاشتراكي والناصري، والذي يحظى بدعم إماراتي، على منطقة الحجرية الإستراتيجية التي تمتد في الريف الجنوبي والجنوبي الشرقي. كما تدعم الإمارات كتائب أبو العباس السلفية، التي كانت قوة مهيمنة في مدينة تعز في إحدى المراحل، والتي خرجت من المشهد العام منذ هزيمتها من قِبل قوات الإصلاح عام 2019؛ حيث لم يعد يوجد لها سوى حضور رمزي في منطقة الكدحة غرب المحافظة.

لم تشهد الخطوط الأمامية في مدينة تعز بين الحوثيين وقوات الجيش الموالية لحزب الإصلاح تغيرات جوهرية منذ طرد الحوثيين من النصف الجنوبي من المدينة في صيف 2015 بعد تدخل التحالف بقيادة السعودية في وقت سابق من العام. وفي غرب المحافظة، جرى تحرير مدينة المخا الساحلية والريف الجنوبي الغربي في الأشهر الأولى من عام 2017 من قِبل قوات العمالقة وقوات المقاومة الوطنية التابعة لطارق صالح. لاحقاً في يناير وفبراير، تحولت خطوط الصراع إلى شرق المدينة بعد أن استولى اللواء 35 مدرع على مديريتي الصلو والقبطية.

ولكن ظل الحوثيون مسيطرين على شمال المدينة، بما في ذلك على الطرق الرئيسية الثلاثة للمحافظة. وبالتالي فرضت جماعة الحوثيين حصاراً قاسياً على تعز منذ صيف عام 2015، وأعاقت حركة المواطنين والبضائع، ما ترك طريقاً رئيسياً واحداً فقط للدخول والخروج من المدينة، وهو الذي يمتد من جنوب المحافظة مروراً بالتربة نحو عدن. كما يسيطر الحوثيون أيضاً على المنطقة الصناعية في شمال المدينة حيث يجنون مئات الملايين كل عام من خلال الضرائب على أصحاب المصانع. اكتفت جماعة الحوثيين بهذا الوضع وكانت راضية به، فخرجت بشكل ضمني من مسرح الصراع الرئيسي في تعز، واستمرت بالقيام بمناوشات محدودة مع خصومها في ظل وضع دفاعي.

وهكذا تغيرت طبيعة الصراعات في تعز من حرب بين الحكومة اليمنية والحوثيين إلى معارك داخلية بين الشركاء الشكليين في التحالف المناهض للحوثيين. اندلع الصراع المسلح في تعز بشكل متكرر بين نهاية عام 2017، وأبريل 2019، بهدف السيطرة على المدينة. فاز حزب الإصلاح في هذه المعركة وطرد قوات أبو العباس بعد عدد من جولات القتال. ولكنه كان انتصاراً مكلفاً مع ازدياد التوتر السياسي وظهور أزمة ثقة بين حزب الإصلاح والأحزاب السياسية الأخرى في المدينة.

هيمنة حزب الإصلاح
شهدت المدينة انفلاتاً أمنياً واسعاً وأعمال بلطجة تنسب لعصابات مسلحة موالية لقادة سياسين وعسكريين يبدو أنهم موالون للإصلاح. ومن أشهر هذه العصابات عصابة يقودها غزوان المخلافي، والذي تجمعه قرابة بقائد اللواء 22 ميكا صادق سرحان الموالي لنائب الرئيس علي محسن الأحمر، وعصابة غدر الشرعبي الموالي لعبده فرحان الشهير بسالم، مستشار قائد محور تعز العسكري الذي ينتمي لحزب الإصلاح. وتقوم هذه العصابات بابتزاز الأموال من المتاجر، والاستيلاء على الأراضي، والاستيلاء على البيوت التي نزح سكانها بسبب الأوضاع في تعز.

يسيطر حزب الإصلاح فعلياً على القرار العسكري والسياسي في المحافظة، ويعتبر الطرف الأكثر قوة فيها، ويواليه كل من قائد محور تعز العسكري خالد فاضل، ومدير عمليات المحور عدنان زريق، ومدير شرطة المحافظة منصور الأكحلي، ومدير الأمن السياسي (أحد أجهزة الاستخبارات) عبدالواحد سرحان. علاوة على أن معظم الألوية العسكرية تخضع لسيطرة الإصلاح، حتى لو لم يكن قادتها من اتباعهم، حيث يعتمد الإصلاح على سيطرته على قيادة المحور العسكري في فرض تغييرات في بنيتها تجعلها موالية لهم. على سبيل المثال فقد شكّل ألوية عسكرية جديدة من أنصاره، ودمج المقاتلين المواليين له في الألوية العسكرية الموجودة مسبقاً، وقام بترقية أفراده ومنحهم رتباً عسكرية على الرغم من عدم انتمائهم للجيش بشكل قانوني.

مُنح مستشار قائد محور تعز عبده فرحان (سالم)، المنتمي للإصلاح والذي يعتبر الرجل الأقوى في تعز، رتبة عسكرية على الرغم من أنه موظف في الأساس في وزارة التربية والتعليم. يعتبر سالم واحداً من أهم الأشخاص الذين يعتمد عليهم الإصلاح لإبقاء الجيش تحت سيطرته. وعلى المستوى السياسي فيما يخص صنع القرار، يبرز شخصان أساسيان هما عبدالجليل سعيد رئيس فرع تجمع الإصلاح في تعز، وأحمد القميري العضو البارز في الحزب. ويدير هذان الشخصان، بالتشاور مع الأحزاب السياسية الأخرى - تحديداً الحزب الاشتراكي والتنظيم الناصري وحزب المؤتمر - شؤون المحافظة كالتوصل إلى تسويات للنزاعات السياسية أو الاتفاق على تهدئة بين الأطراف المتعددة في المحافظة. ويتواجد عبد الجليل سعيد في مدينة تعز، بينما يتواجد القميري في الرياض.

في ديسمبر 2019، شهدت تعز اغتيال أبرز قائد عسكري غير موالِ لحزب الإصلاح هو العميد الركن عدنان الحمادي قائد اللواء 35 مدرع. وأدى ذلك إلى رفع مستوى الاستقطابات في المحافظة خصوصاً أن الاغتيال أتى بعد حملة تحريض واسعة في الوسائط الاجتماعية ووسائل الإعلام المقربة من حزب الإصلاح وبعد سلسلة من المماحكات بين الطرفين. ويعود سبب التوتر الرئيسي بين حزب الإصلاح واللواء 35 مدرع إلى سيطرة الأخير على التربة في منطقة الحجرية الإستراتيجية، والتي يمر منها الطريق الوحيد إلى داخل وخارج المدينة، والذي لا يحاصره الحوثيون.

تدعم الإمارات، التي تعادي حزب الإصلاح لانتمائه للإسلام السياسي بشكل عام وتحديداً للإخوان المسلمين، اللواء 35 مدرع، ولكن الأخير ليس خاضعاً للإمارات. وقد دعمت الإمارات الجماعات المعادية لحزب الإصلاح عبر اليمن. وبالتالي ينظر حزب الإصلاح إلى اللواء 35 مدرع كتهديد يطال فرصه بفرض السيطرة ليس فقط على مدينة تعز وإنما على المحافظة بأكملها.

قطر وعُمان تشكلان وكيلاً في تعز لمواجهة الإمارات والسعودية
بالإضافة إلى الإمارات، شهدت تعز نشاطًا متزايدًا من قِبل الأطراف الإقليمية الأخرى. برز نشاط قطر، التي لا تزال على خلاف مع السعودية منذ أن اندلع نزاع مرير بينهما منتصف عام 2017، بشكل مرئي عبر دعمها لأحد أبرز قادة المقاومة الشعبية الشيخ حمود المخلافي، وكما لعبت عُمان دوراً في تسهيل هذا الدعم.

برز المخلافي، الذي ينتمي إلى حزب الإصلاح، كزعيم للمتمردين في تعز أثناء القتال بين القوات المحلية والقوات الحكومية الموالية للرئيس علي عبدالله صالح عند اندلاع الانتفاضة عام 2011. يعتبر المخلافي من بين أول قادة المقاومة المحلية ضد الحوثيين عام 2015، وبعدها لعب دوراً كوسيط محلي في المدينة. في أغسطس 2019، دعا المخلافي، الذي يعيش متنقلاً بين مسقط وإسطنبول، المقاتلين المنتشرين على الحدود اليمنية - السعودية في مواجهة الحوثيين إلى الانضمام إلى معسكر في تعز والاستيلاء على باقي المحافظة من الحوثيين، ولكن نُظر لهذه الدعوة بشكل واسع باعتبارها تحشيد في مواجهة قوات طارق المدعومة إماراتياً، والتي تسيطر على الشريط الساحلي ومدينة المخا.

أُقيم المعسكر في يفرس، جنوب مدينة تعز في منطقة تابعة للواء 17 الموالي لحزب الاصلاح، وضم حوالي خمسة آلاف مقاتل. ولكن كافة الأطراف السياسية في تعز، أبرزها حزب الإصلاح، أدانت إنشاء المخلافي للمعسكر بشكل غير نظامي، في خطوة تهدف لاسترضاء السعودية. وبالتالي غادر المقاتلون المعسكر، إلا أن الأدلة القولية تشير إلى أن هذه القوة المقاتلة أعادت انتشارها في مدينة تعز. ويبدو أن تمويل قوات المخلافي هو أكثر الخطوات القطرية جرأة في استظهار نفوذ علني مسلح في تعز، بل وفي اليمن بأكمله، حتى يومنا هذا.

تعكس هذه التعقيدات الحالية الوضع الشائك في تعز. ومن غير المرجح أن يتحسن الوضع السياسي والأمني غير المستقر على المدى القصير. وما لم يبادر الحوثيون - الذين أعادوا شن هجمات عسكرية على أكثر من جبهة عام 2020 - إلى تجديد اعتداءاتهم على تعز، فإن طبيعة الصراع هناك ستظل ضمن التنافس المحلي بين صفوف الطرف المناهض للحوثيين. ويعكس هذا النزاع أزمة الحكومة المتعلقة بالشرعية في ظل الانقسامات بين حلفائها الشكليين والتنافس بين القوى الإقليمية للتأثير على الصراع.

"مركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى