(الوجه) في مخيلة شعراء البصيرة.. البردوني أنموذجا

> يتجلى الوجه في السياق القرآني من الناحية الملموسة بصرياً كلوحة بيانية لأعمال المرء، كما وصف الله النبي، صلى الله عليه وسلّم، والذين أمنوا معه، بقوله تعالى: "سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ" (الفتح 29). ومن الناحية المعنوية ما يعبِّر عن غبطة وفرحة أصحاب الأعمال الصالحة بفوزهم: "وجوهٌ يومئذ مسفرة، ضاحكة مستبشرة" (عبس 38 - 39)، واكفهرار وجوه العصاة والمجرمين كتعبير عن الخسران: "ووجوه يومئذٍ عليها غَبَرَة، ترهقها قترة، أولئك هم الكفرة الفجرة" (عبس 40 -41 - 42).

أما في المثل الشعبي السائر يقال: "الوجه مصباح البدن"، أي إنه سراج يتوهج ليدل على نوايا صاحبه وطيبه ولؤمه وصحته وسقمه.
فإذا حَسُن الوجه وطاب، فكل الجسد يأخذ حظه من ذلك والعكس.. ومثلما توجد إمكانية في تزييف الوجوه بصرياً، فثمة إمكانية لزيف الجواهر، على نسق من المفارقات التي لا تجعل جمال الشكل هو جوهر المرء مهما بلغ به من بهاء، إذا لم يصدق الفعل سمات النَّضَارة.

أما الوجه في رؤية شعراء البصيرة (العميان) لوجوههم التي يحملونها ولا يعرفونها، وتصورهم للوجه الآخر كقضية محورية في مقام الحديث عن حضور الوجه في الشعر العربي. إذ إن عطاءهم يشتمل على صور متخيلة بلغة تصويرية دقيقة البيان تجعل من وجودها خيطاً يسرج العقل في دهشة نفاذ البصيرة، كبديل لمأساة فقدان نعمة البصر.

فالشاعر اليمني عبدالله البردوني (1929 - 1999م) مثلاً، فقد بصره وكان في الرابعة من طفولته بسبب وباء الجدري، فرافقته هذه المأساة طول حياته الزاخرة بالإبداع. ففي ديوانه "وجوه دخانية في مرايا الليل" يطارد الشاعر في قصيدة، بالعنوان نفسه، وجه حلمه في مفازات الليل وبما يعكس عيشه السرمدي في الظلام:

أيها الليل! أنادي إنما

هل أنادي؟ لا أظن الصوت وهمي

إنه صوتي ويبدو غيره

حين أصغي باحثاً عن وجه حلمي

وفي ديوانه "السفر إلى الأيام الخضر"، يتجلى البردوني في قصيدته "غريبان وكانا هما الوطن" شاعراً بصيراً جابت مخيلته الآفاق راسمة صوراً عجز المبصرون أن يتخيلوها، لكنه بَرْوَزَها ببيان مشرئب بالسهل الممتنع، معبراً عن الذاكرة الجمعية اليمنية القلقة المجبولة على مكابدات الهجرة والضرب في مناكب الأرض، إذ يطل من ناصية مهاجر يتهجى العابرين لعله يجد فيهم يمنياً واصلاً من الوطن الأم:

من ذلك الوجه؟ يبدو أنه (جَنَدِي)

لا.. بل (يريمي) سأدعو، جدّ مبتعدِ

ويسترسل مخمناً انتماء الوجه لأي من مناطق اليمن المترامية، مفضياً لتخمين شمل جغرافيا اليمن عبر أهم الصفات المشتركة بين أبنائها:

عرفته يمنيّاً في تلفّته

خوفٌ وعيناه تاريخٌ من الرَّمَدِ

وفي قصيدته الشهيرة: "أبو تمام وعروبة اليوم"، التي ألقاها في مهرجان الشعر العربي بالموصل في العراق عام 1971م، الذي أقيم تخليداً للذكرى الألف لوفاة الشاعر العربي الكبير حبيب بن أوس الطائي المكنى بـ "أبي تمام" يوغل البردوني في وصف تفاصيل وجهه الموشى بزمن الهزال والشيب المبكر، متسائلاً في خطابه الموجَّه افتراضاً لأبي تمام، عن سر تعجب الأخير من وجهه المجدور:

(حبيب) هذا صداك اليوم أنشده

لكن لماذا ترى وجهـي وتكتئب؟

ماذا؟ أتعجب من شيبي على صِغري؟

إني ولدت عجوزاً.. كيف تعتجبُ؟!

واليوم أذوي وطيش الفن يعزفني

والأربعون على خدّي تلتهبُ

كذا إذا ابيضّ إيناع الحياة على

وجه الأديب أضاء الفكرُ والأدبُ

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى