> أ. محمد عبدالقوي

عندما نتذكر جلياً نضالات الأماجد الأوائل من المناضلين الوطنيين الأفذاذ فإننا لا نفعل ذلك تخليداً لما اجترحوه بكدهم وكدحهم وعرقهم ودمائهم الطاهرة من بطولات عظيمة من أجل التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي فحسب، وإنما ذلك عرفاناً واعترافاً بما بذلوه وضحوا له بالغالي والنفس والنفيس لكي يظل نبراساً ودرساً تاريخياً واجباً تهتدي به وتستلهمه وتتعرف عليه الأجيال اللاحقة والجيل الصاعد من الشباب بإمعان، وتستخلص منه العبر القيمة خاصة تلك التي لم تعاصر أو تستوعب أحداث ومنعطفات المراحل السابقة بحلوها ومرها ونجاحها وانتكاساتها.

فالمناضل الوطني الكبير اللواء علي محضار قاسم كان واحداً من أولئك الأبطال الأوائل الذين قدموا التضحيات الجسام بسخاء وقناعة وشجاعة لا تلين وهمة وعزم شديدين، وتحمل عناء وقساوة الظروف المعيشية للحياة، وتحديات تطلعه للعلم والعمل كناحت صخر بأظافر يديه، وناقش لوحة مخضبة بمداد عرقه ودموعه ودمه معتمداً على نفسه، ومشاركاً نشطاً في معترك التحرر الوطني في آن معاً.

ويفرض الواجب الأخلاقي والأدبي علينا تجاه هذه القامة الوطنية أن نسرد ونخلد ذكرياتها الناصعة بياضاً المشعة نوراً وضياءً، وأن ننشر ما نعلمه عن صفحات نضاله لا للتباهي، وإنما تقديراً واحتراماً وإكباراً وإجلال لهذه الهامة الوطنية.
ورغم أنه قد أجرى اللقاءات والمقابلات الصحفية العديدة، ومشاركته بندوات وثقت فيها سرديات مشاركاته النضالية والوطنية، لكن ذلك لا يمنع تناول ما يمكن تناوله لتسليط الأضواء على مسيرته النضالية الوضاءة ابتداءً من مشاركته بحركة محمد عيدروس العفيفي ضد المشاريع الاستعمارية البريطانية في الخمسينات من القرن الماضي مروراً بالتحاقه بالحرس الثاني الاتحادي في عدن، واستغلاله فرصة الوقت المسائي المتاح للتعلم بالمعهد التجاري في الشيخ عثمان إلى انضمامه للعمل الوطني الكفاحي السري للجبهة الوطنية لتحرير جنوب اليمن المحتل في بداية الستينات التي كان هو أحد مؤسسيها وقادتها إلى انضمامه للجبهة القومية وقيادته لجبهة يافع وما تلى ذلك.

علي محضار لم يكتف بنضاله في صفوف الجبهة الوطنية وكسب الأعضاء الجدد بعدن المدينة، بل امتد نضاله إلى يافع الساحل بمدينة جعار(بصورة سرية)، وقد صادف أن التقيته وتعرفت عليه لأول مرة عام 62 (وأنا أدرس في ثالث متوسط) عندما جاء إلى منزل (عمي) ناصر عبدالقوي (أحد مؤسسي الجبهة الوطنية)، واجتمع بلفيف من الوطنيين الأحرار في جعار بغرض تعريفهم بالجبهة الوطنية، وضمهم إلى العمل السري للجبهة، منهم صالح عبدالرحمن الحريري، وعلي محسن البعسي، وعلي ناصر اليزيدي، وعلي سالم الناخبي وغيرهم، وقد كان زميله بالحرس الثاني الاتحادي والمعهد التجاري، ورفيق دربه بقيادة الجبهة الوطنية علي مقبل حسين، كما أخبرني علي مقبل في لقاء شخصي معه في الثمانينات هو الآخر ذهب إلى الضالع للقيام بنفس المهمة الوطنية، والتقى بلفيف من شخصيات وطنية لضمها إلى الجبهة الوطنية.

وبعد أن تقوّى عود الجبهة الوطنية، وتوطدت مكانتها ودورها في عدن وأنحاء من الجنوب، وعندما تفجرت ثورة 26 سبتمبر 62 الخالدة على الحكم الأمامي البائد في شمال اليمن كان ممثل الجبهة الوطنية عبدالقادر أمين واحداً من الذين التقوا وقابلوا قحطان محمد الشعبي الأمين العام للجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل (التي تأسست بصنعاء في أغسطس 63) للانضمام إليها، وكانت الجبهة الوطنية إحدى المنظمات والتنظيمات السبع التي أعلن عن ضمها ودمجها بالجبهة القومية.

ولما تفجرت ثورة 14 أكتوبر 63 من على قمم ردفان الشماء وجدها علي محضار فرصة سانحة للالتحاق بأربعين من رفاقه بدورة تدريبية عسكرية قصيرة لكوادر قيادية بقلعة صالة في تعز رتبتها الجبهة القومية في عام 64 لتوزيعهم على الجبهات وقيادة العمل في الداخل، وبعد تلك الدورة التدريبية لم يعد علي محضار إلى عمله في الحرس الاتحادي، وإنما إلى جبهة القتال في ردفان مشاركاً بجيش التحرير، ومن ثم إلى جبهة عدن التي أعلن عن افتتاحها في عام 64.

وفي نفس العام تعين علي محضار قائداً لجبهة يافع، وتمكن من تشكيل فرقة عسكرية قامت بعمليات عسكرية، وفي إحدى هذه العمليات بمنطقة يرامس في أبين نشبت معركة غير متكافئة مع قوة عسكرية من سلطنة الفضلي -بسبب وشاية- نفذت فيها ذخيرة المجموعة، وجرح منها من جرح، وتم أسر علي محضار ورفاقه وزج بهم في سجن جعار المسمى البحرين.

وتكررت معرفتي به والتعرف عليه، ولكن هذه المرة كانت بغياهب سجن جعار، فعلى إثر مظاهرة قمنا بها نحن (طلاب كلية الاتحاد بمدينة الاتحاد) وتم اعتقال مجموعة  من الطلاب النشطاء وزعوا على سجون مناطقهم، وكان مصير سبعة منا بسجن جعار، وقضينا فيه عدة أسابيع التقيت بعلي محضار في السجن مرات عدة عندما كانت تتاح لنا فرص الخروج الجماعي من الزنازين إلى الباحة الداخلية للتشمس والمشي لمدة ساعة واحدة، وكانت معنوياته عالية ويشد من أزر رفاقه في السجن.

وبعد خروجنا من السجن نقلنا أحوال وأخبار علي محضار ورفاقه إلى تنظيم الجبهة القومية.
وبعد عدة أشهر تمكنت خلية من الجبهة القومية من ترتيب تهريب علي محضار ورفاقه من السجن (ومن هذه الخلية محمود سبعة، ناصر عبد القوي، صالح فاضل، عبدالله عبدالرحمن، والحارس محمود خالد الذي كان يتولى حراسة برج السجن في تلك الليلة)، وذلك بمد الحبال من البرج إلى أسفل الجدار الخارجي للسجن، وبعد فتح الزنزانة وطلوع علي محضار ورفاقه واحداً واحداً نزلوا بالحبال إلى خارج السجن، وهربوا باتجاه باتيس، والأغلبية -منهم علي محضار والحارس محمود خالد- سلكت طريق كبث وادي بنا سيراً على الأقدام إلى ردفان ومن ثم إلى تعز، والبعض ذهب طريقاً آخر لتفادي وقوع الكل في مصيدة الأسر لأن قوة عسكرية من الحرس خرجت تبحث عنهم.

وبعد هروبه من السجن في نوفمبر 65 ووصوله إلى تعز لم يتوقف علي محضار عن نضاله مواصلاً مشواره بقيادة جبهة يافع في صفوف الكفاح الوطني بردفان ومدينة عدن ومدينة جعار.
وقد تسنى له حضور مؤتمر الجبهة القومية الذي انعقد بداية عام 66 في جبلة بإب بعد إعلان الدمج القسري بجبهة التحرير، وكذلك المؤتمر الذي انعقد في قرية حمر بقعطبة في نوفمبر 66، وأعلن انسحاب الجبهة القومية من جبهة التحرير، ورسم إستراتيجية نضالية جديدة للمرحلة حينذاك تجمع بين العمل العسكري، وتكثيف العمل في أوساط جماهير الشعب، ومنظماته المدنية والاجتماعية والمهنية والنقابية.

والمناضل علي محضار كقائد لجبهة يافع واجه كغيره من قادة جبهات القتال وطأة الموقف المتصلب من قيادة الجهاز المصري بتعز، وقطعها المؤن والذخائر والأسلحة والمعاش الشهري لفرق جيش التحرير على إثر إعلان انسحاب الجبهة القومية من جبهة التحرير، وذهب إلى تعز من ذهب من قادة جبهات القتال لمراجعة الجهاز المصري على هذا الموقف، ومنهم علي محضار قائد جبهة يافع وعبدالله مطلق قائد جبهة حالمين وغيرهما، ولكن قيادة الجهاز المصري ماطلت وتحججت بأعذار واهية للتملص من التزاماتها وكسب الوقت، لأنها دفعت بأعضاء من اللجنة التنفيذية للجبهة القومية ممن انضم لقيادة جبهة التحرير (علي أحمد السلامي الذي وقع مع عبدالله الأصلح وثيقة الدمج القسري بجبهة التحرير في يناير 66، وسالم زين محمد وطه أحمد مقبل) للتحضير لمؤتمر آخر باسم الجبهة القومية، وإعلان بقائها في إطار جبهة التحرير. وقد وصلت مثل هذه الأنباء والتحركات إلى قيادة الجبهة القومية بعدن، وحينها استدعاني فيصل عبداللطيف المسؤول القيادي الأول لجبهة عدن (بواسطة علي صالح عباد مقبل الذي طلب مني الذهاب إلى بيت الحمادي بالقاهرة أحد البيوت السرية لقيادة الجبهة القومية لمقابلة فيصل عبداللطيف)، وطلب مني الذهاب إلى تعز، وحمل رسالة خطية منه إلى علي محضار وعبدالله مطلق (لمعرفتي وعلاقتي بهما)، وذلك لكي يلعبا دوراً في عرقلة التحضير للمؤتمر المزمع عقده بمدينة تعز باسم الجبهة القومية وإفشاله. وقد التقيت بهما بمدينة تعز وأكدا عدم موافقتهما على المشاركة بمؤتمر هكذا وأبديا استعدادهما للقيام بدور إفشال المؤتمر وبُليا بلاءً حسناً (مع مجموعة من الفدائيين، ومنهم الشهيد علوي حسين فرحان) في إفشال ذلك المؤتمر.

وفي نهاية يناير 67 عاد إلى عدن من تعز علي محضار، والتقى بفيصل عبداللطيف، وتم ترتيب وضعه التنظيمي بجبهة عدن (وسكن في كثير من الأحيان بمنزل  حسين محمد زين بالمنصورة، حيث كان يلتقيه كثير من رفاق دربه، ومنهم محمد ناجي بن شجاع، وسالم محمد الناخبي، وأحمد محمد شوقي وغيرهم).
ومن الذكريات أنه عندما كانت الجبهة القومية تحضر لمظاهرة كبرى في الشيخ عثمان للتنديد بذكرى تأسيس اتحاد الجنوب العربي المزيف في 11 فبراير قبل المظاهرة التقى علي محضار في مطعم ديلوكس بالشيخ عثمان بمهيوب علي غالب (عبود)، وبينما هما يتحدثان لمحا سيارة لدورية عسكرية بريطانية تتجول بالشارع فهم عبود أن يخرج من المطعم ويهاجم الدورية بقنبلة كان يخفيها معه فنصحه علي محضار أن يتأنى، ولا يقوم بذلك في تلك اللحظة (كما رواها لي بنفسه) خاصة وأنه يلبس قميصاً أحمر اللون قد يلفت أنظار دورية ثانية أو رجل الحراسة العسكري البريطاني في أعلى العمارة (التي تقع في أسفلها مكتبة الشيباني)، ولكن عبود لم يأبه للنصيحة، وما هي إلا دقيقة أو دقيقتين حتى سمع العامة دوي القنبلة اليدوية، وتبعها صوت وابل من طلقات الرصاص -اتضح فيما بعد أن مصدرها من الحارس في أعلى العمارة- مردياً بعبود صريعاً وسط الشارع، وسارع علي محضار ونفر آخر من المتواجدين إلى إسعاف عبود، لكنه كان فارق الحياة شهيداً خالداً.

ومن الذكريات مع هذه القامة الوطنية الكبيرة زيارة من زياراته السرية لمدينة جعار في مارس من عام 67، حيث التقى بعدد من المناضلين، وتداول معهم النقاشات والهموم الوطنية المشتركة ووجههم بنصائحه، وعندما تقررت عودته إلى عدن صادف وجودي بجعار في إجازة أسبوعية من الدراسة بالكلية، ورتبنا سيارة محمد بن فضل هرهرة لتقله إلى عدن، ولكن كانت الخشية أن يكشف أمره من نقطة حراسة تدقق بهوية ركاب السيارات في مدخل ومخرج المدينة (الجمرك)، وجرى الاتصال بالصديق محسن مكيش لكي يساعدنا بنقل علي محضار بدراجته النارية إلى المحاريق خارج مدينة جعار بطريق جانبي ترابي لا يمر بالجمرك، حيث نكون في انتظاره بالسيارة فوافق على ذلك، ولكن حصل ما لم يخطر على بال، إذ إن مطبات الطريق الترابي أوقعت برجل علي محضار اليمنى بين الفتحات الحديدية للعجلة الخلفية للدراجة، ووصل إلينا ورجله تسيل دماً كثيفاً جراء جرح غائر. ولما كان مستشفى المخزن ليس بعيداً أخذناه مسعفين سبقنا مكيش مسرعاً بدراجته إلى أحد الممرضين المعروفين بالمستشفى الذي قام بتجهيز غرفة خاصة، ونظف وعقم الجرح قبل أن يخدر علي محضار تخديراً موضعياً ورتق الجلدة المحيطة للجرح بخيوط صحية رفيعة، وضمده بعد أن وضع الدواء بالشاش القطني اللازم، وبعد ساعة من الانتظار انطلقنا متجهين به إلى عدن لمواصلة استشفائه.

وعندما قررت الجبهة القومية في صيف 67 -بعد أن توفرت ونضجت الظروف الذاتية والموضوعية- بسط سلطتها على الأرياف، ومنها يافع العليا ويافع السفلى كان علي محضار في مقدمة رفاق دربه بقيادة فضل محسن عبدالله ومشاركة محمد ناصر جابر، سالم عبدالله عبدربه، محمد عبدالرب بن جبر، أحمدحاجب، عبدالرب علي مصطفى، أحمد غالب سيف، سالم عبدالرب بن جحاف، محمد علي القيرحي، قاسم محمد سليمان، أحمد قاسم راجح، أحمد راجح، ناجي خضر، ثابت عبد، يسلم عبدالله وغيرهم يتولون إرساء سلطة الجبهة القومية، وإشاعة وتثبيت التصالح والصلح من الثارات والفتن القبلية بين القبائل طويل الأمد، وكذلك تشجيع مبادرات شق الطرقات وبناء المدارس، وفتح صفوف محو الأمية وإنشاء العيادات الصحية وغيرها.

 وبعد أن استلمت الجبهة القومية السلطة بعد نيل الاستقلال الوطني الناجز لم ينل البعض من المناضلين الحقيقيين، والبعض من قادة الجبهات الاهتمام والرعاية التي يستحقونها، وكان منهم علي محضار الذي لم يحصل على حقه المشروع من الاهتمام والتكريم ولم يتسابق إلى منصب أو جاهٍ قبل العمل بوزارة الداخلية مؤدياً واجبه كضابط من ضباطها العاديين بتواضع جم، ونكران ذات دون منة بنفس أبية.

وبسبب الصراعات السياسية التي ظهرت بعد الاستقلال الوطني بين صفوف قيادات الجبهة القومية (من بين الأسباب غياب الديمقراطية وحرية الصحافة والتعبير عن الرأي والتعددية السياسية والتمثيل النيابي بانتخابات حرة ونزيهة يكفلها دستور عادل وقوانين شفافة)، وبعد معاناة من المضايقات السياسية وتجنباً من أي إيذاء أو استهداف شخصي فضل حينها النأي بالنفس عما يجري، فاضطر للهجرة والإقامة في الخارج، ولم يعد إلى الوطن إلا في بداية التسعينات، حيث تعين مستشاراً لوزير الداخلية برتبة لواء، وأدى واجبه الوطني بكل إخلاص وغادر الحياة يرحمه الله قبل أيام قليلة من نهاية يوليو 20، ولم يترك خلفه منزلاً بناه أو مالاً أو عقاراً كسبه في حياته غير السمعة الحسنة والعلاقات الوفية مع رفاق دربه وأصدقائه وأهله ومحبيه.

لقد عاش المناضل الجسور علي محضار وطنياً مخلصاً صادقاً وشريفاً نزيهاً لساناً ويداً، وترك أثراً كفاحياً قيماً خالداً ناصعاً مشعاً لا يمكن نسيانه أبداً.

*وزير الإعلام الأسبق​