«مملكة قتبان» لم تسلم من نيران الحرب

> جمال شنيتر

> قانون شمر التجاري سن أهم العلامات الحضارية
تشكل حضارة مملكة قتبان واحدة من الحضارات الأكثر تأثيراً في تاريخ اليمن القديم وشبه الجزيرة العربية، بينما يعد قانونها التجاري علامة استثنائية في تاريخ الحضارات اليمنية القديمة.
ورغم ثراء المملكة القتبانية بالكنوز الأثرية العديدة، فإن آثارها ومعالمها مهددة بالضياع نتيجة قلة الاهتمام الحكومي بها وشُح الإمكانيات، كما فعلت الحرب الدائرة في اليمن منذ سنوات فعلها بشواهدها، مما أدى إلى تأثر بعض معالمها بنيران الحرب.

نشوء مملكة قتبان
تختلف الآراء حول تحديد بداية نشوء مملكة قتبان وممالك الحضارة العربية الجنوبية عموماً، وتتراوح بين القرن الثامن قبل الميلاد حسب الفريق الذي يتزعمه عالم النقوش الفرد بيستون، والقرن الخامس قبل الميلاد حسب الباحثة جاكلين بيرين.
من جهته، يلفت الدكتور فيصل  البعسي أستاذ التاريخ المساعد بجامعة عدن إلى قدم الاستيطان البشري في وادي بيحان، حيث أثبتت الدراسات الحديثة أن الزراعة قد مورست على نطاق واسع هناك منذ الألف الثالث قبل الميلاد، وبالتالي فإن أقدم ذكر نقشي لقتبان كدولة هو ما جاء في "نقش صرواح الكبير" للملك السبئي كرب آل وتر، ويرجع إلى القرن السابع قبل الميلاد، ويتحدث عن تحالف كل من ممالك قتبان وحضرموت وسبأ لغزو مملكة أوسان وتدميرها.

وفي ذات السياق، يضيف البعسي أنه "ورد ذكر مملكة قتبان وعاصمتها تمنع عند عدد من الكتاب الرومان، مثل بليني وإسترابو وآخرين الذين عاشوا في القرن الأول الميلادي، وقالوا إنها تقع إلى الجنوب من سبأ، وبعد كتاب الطواف حول البحر الإريتري فإن هذه المملكة وعاصمتها ظلت منسيّة لأكثر من 1800 سنة، حين كشف عنها مجدداً العالم الأسترالي جلازر من خلال دراسته النقوش العربية الجنوبية التي وقعت في يده خلال زيارته لليمن عام 1895، أما أول من زار موقع هجر كحلان، وتعرف عليه كعاصمة لمملكة قتبان "تمنع" فهو النمساوي جورج وليم بوري في نحو 1898م، وهو أحد أعضاء فريق البعثة التي أرسلتها إلى عدن أكاديمية العلوم في فيينا، ثم زارها (براون) في 1936م وهو ضابط سياسي بريطاني، ولحقه فيلبي ثم آخرون، وفي عام 1950 - 1952 تمت أول عملية تنقيب في هذا الموقع من قبل المعهد الأميركي للدراسات الإنسانية برئاسة ويندل فلبس، كما نقبت هذه البعثة في (حيد بن عقيل) وهو موقع المقبرة الملكية".

مكانة اقتصادية
 اعتمد اقتصاد مملكة قتبان ومعايش أهلها أساساً على النشاط التجاري والزراعي ثم بدرجة أقل على النشاط الصناعي، حتى إن الكتّاب الرومان قالوا إن أرضها تعتبر مصدر الطيوب والعطور والبخور السبئية التي كانت معروفة في الأسواق العالمية.
ومن هنا يشير البعسي إلى تميز القتبانيين بنشاط زراعي هائل، من خلال إقامة مشاريع الري في الوديان، وشق القنوات الطويلة، وحفر الآبار والتوسع في استصلاح الأراضي الزراعية، وبناء السدود والصهاريج، بينما هناك عشرات النقوش التي تحدثنا عن إنجازات ملوك قتبان في المجال الزراعي في وادي بيحان، وعلى مجمل الأراضي التي كانت خاضعة لحكمهم على يد الملوك أنفسهم أو على أيدي حكام الأقاليم الخاضعين لحكمهم، وتجارياً أحسن القتبانيون استثمار موقع بلادهم على طريق اللبان التجاري، فأقاموا الموانئ على طول السواحل الجنوبية والغربية، وسهروا على حماية وتأمين الطرق التجارية وتزويدها بالسقاية والخدمات اللازمة، وعنوا بشق ورصف الطرق الوعرة كطريق مبلقة، وسنوا الشرائع والقوانين التجارية كنقش سوق شمّر، الذي ينظم عمليات البيع والشراء والتجارة في سوق شمر، السوق القديم لتمنع العاصمة، حيث لا يزال قائماً في مكانه وسط (هجر  كحلان)، وهو عبارة عن مِسَلَّة نقش على جوانبها تعاليم خاصة بسوق المدينة، ويبين النقش إجمالاً الرسوم المفروضة، وفئات التجار وغير ذلك.

كنوز من الآثار
وخلال حديثه، يستعرض البعسي أهم آثار قتبان التي كشفت عن بعض منها بعثة ويندل فلبس، ومنها الكشف عن مخطط العاصمة تمنع كاملاً بمساحة 350 × 700 متر مع الساحة الرئيسية والسوق وسور المدينة وبواباتها التي نقش على جدرانها أسماء الملوك القتبانيين، ونقش سوق شمّر والذي يقع وسط الساحة، ويعد أقدم قانون تجاري في شبه الجزيرة العربية، إضافة إلى معبد الإله عثتر المعبد الرئيسي للمدينة، وهو معبد ضخم مبني من كتل حجرية ضخمة وله ساحة كبيرة، إضافة إلى معبد آخر، كذلك القصر الملكي (حرب) أو (حريب) الذي يعد من أهم معالم المدينة، غير أن أعمال النبش والتخريب التي طالت هذا الموقع في الفترات الأخيرة قد أتت على كل ما تركته الحملة الحضرمية التي أحرقت القصر ضمن إحراقها للمدينة كاملة في 175م، كما تم الكشف عن ثلاث طبقات على الأقل من السكنى في هذا الموقع، أقدمها يرجع إلى الألف الثالث قبل الميلاد.

نظام الحكم
وفي ختام حديثه يتطرق البعسي إلى نظام الحكم في مملكة قتبان إذ حمل حكامها لقب "مكرب" مثلهم مثل حكام الممالك العربية الجنوبية الأخرى الذين حملوا هذا اللقب، وفي فترات لاحقة تخلوا عنه وحملوا لقب "ملك"، ويعني ذلك أن نظام الحكم في قتبان مثله مثل الممالك الأخرى أيضاً نظام ملكي وراثي، إلا أن سلطة الملك لم تكن مطلقة، بل تشاركه بعض الهيئات، ومن أبرزها ما يعرف باسم "مسود" وهو مجلس للأعيان ويتألف من أقيال المناطق وشيوخ القبائل والشخصيات الاجتماعية المعروفة في الدولة إضافة لكبار الموظفين، ويجتمع بدعوة من الملك مرتين كل عام في العاصمة تمنع، وغالباً ما يشرك ولي العهد في الحكم إلى جانب الملك سواء كان ولي العهد أخاه أو ابنه الكبير.

القانون التجاري
من جهة أخرى، يرى مدير عام الهيئة العامة للآثار والمتاحف في محافظة شبوة اليمنية خيران الزبيدي، أن أهم العلامات الحضارية الفارقة في تاريخ مملكة قتبان سن تشريع واحد من أقدم القوانين التجارية على مستوى العالم.
وفي السياق ذاته، يتابع الزبيدي "القانون التجاري لمملكة قتبان من النادر أن تجد مثيلاً له في تاريخ العالم القديم، وهو تشريع أصدره الملك القتباني (شهر هلال) قبل نحو ثلاثة آلاف عام لتنظيم التجارة والضرائب التي كان متوجباً دفعها للحكومة، وقد أمر الملك بإعلان القانون المذكور بعد تدوينه على الحجر، ليقف عليه تجّار عاصمة مدينة "تمنع" وغيرهم من التجار الذين يقصدون عاصمته بقصد ممارسة التجارة، وقد تم نقشه على حجر يبلغ طوله مترين، ونصبه الملك في (المنطقة التجارية) من العاصمة، وهي المنطقة المعروفة بـ "شَمَّر" وكان فيها سوق شهير، ويعد هذا القانون من أهم النصوص التشريعية الخاصة بتنظيم الأعمال والأسواق التجارية في العالم القديم، كما أنه من القوانين النادرة المتكاملة والتي تتناول تنظيم التجارة داخل الأراضي التي شرع لحكمها، وتضمن القانون بعض العقوبات المالية، ومنها مصادرة الأموال المنقولة وبيوت التجار، وذلك في حالة ما إذا كان ضمانهم غير كاف أو أقل من المطلوب، كذلك ضَمَّن المشرّع اليمني القديم (قانون التجارة القتباني) الظروف والحالات التي يمكن أن تتجاوز فيها العقوبات المفروضة على التاجر مقدار الضمان المقدم منه، وقد عُثر على هذا القانون منقوشاً على عمود حجري في سوق "تمنع" عاصمة قتبان "بيحان القديمة" التي قامت وازدهرت قبل أكثر من ألفي عام، وقد ترجمه وعلق عليه لغوياً وطبوغرافياً البروفيسور بيستون من جامعة أكسفورد في بريطانيا".

نهاية المجد
وفقاً للزبيدي فقد سيطرت قتبان عبر تاريخها الطويل على مناطق عدة تقع على ساحل باب المندب ثم إلى الشرق اتجهت حتى ظفار (سلطنة عمان) وامتدت سيطرتها على مناطق واسعة من شبه الجزيرة العربية، ولها من النقوش على البحر العربي وشبه الجزيرة العربية الكثير، لكن قتبان استمرت في الحكم في تمنع فترة طويلة، غير أن نهايتها بدأت نحو القرن الأول الميلادي، حيث أحرقت المدينة نتيجة الحروب التي شهدتها، ثم انتقلت العاصمة من تمنع إلى ذات غيلم (هجر بن حميد) وتعاون على إنهاء الدولة القتبانية تحالف من دولة حضرموت ودولة سبأ باتحادهم ضد قتبان، حتى ضموا كل أراضي قتبان إليهما منتصف القرن الثاني الميلادي.

معوقات وتحديات
يتطرق مدير الهيئة إلى ما عانته آثار المملكة القتبانية وفي مقدمتها عاصمتها تمنع من أضرار جراء سيطرة الحوثيين خلال الفترة بين عامي 2015 و2017 على مديرية عسيلان التي تقع فيها الأطلال القتبانية، موضحاً أن ذلك كان سببه القصف الجوي والمدفعي الذي تسبب به الحوثيون في الحرب الأخيرة على اليمن، حيث توغلوا في المواقع الأثرية لمملكة قتبان واستحدثوا المتاريس والأخاديد، وأدى ذلك إلى تدمير بعض المباني والمعالم الأثرية.

وعن دور الهيئة العامة للآثار والمتاحف في الحفاظ على آثار ومعالم محافظة شبوة، يشرح قائلاً "تواجهنا في الهيئة عدد من المشاكل والمعوقات والتحديات في الحفاظ على آثار ومعالم قتبان، بصراحة الهيئة من أضعف الهيئات الموجودة في الجمهورية اليمنية من الناحية المالية، إذ تعاني شُح الإمكانيات المالية، بالتالي لا تستطيع التحرك إلى أي موقع إلا في إطار محدود، في اعتماد فرع الهيئة العامة للآثار والمتاحف في محافظة شبوة هو 16 ألف ريال يمني شهرياً، أي بنحو عشرين دولاراً، فكيف يمكن لنا أن نتحرك ونعمل، هل يصدق هذا فمحافظة شبوة أرض الحضارات، قامت على أرضها ثلاث من ممالك اليمن القديم، لدينا عدة متاحف في عتق وبيحان  وعسيلان، وأكثر من ألف قطعة أثرية، لدينا متحف موقعي في تمنى (مملكة قتبان) تعرض لضرب الطيران وهو في طور الإنشاء، وفي المقابل اعتمادنا المالي مبلغ زهيد للحفاظ على كنوز ومدن ومواقع ومعالم حضارية موغلة في القدم، إنه شيء لا يصدق".

يستدرك "رغم كل تلك المعوقات والصعوبات لم نيأس، فهذا عمل وطني وإنساني في المقام الأول، أن تحافظ على تاريخ بلدك لا سيما في ظروف الحرب هذا واجب، لذا لم نستسلم، لقد اعتمدنا على أنفسنا بمجهود ذاتي وتعاون بعض المواطنين معنا، في تحركنا إلى عدد من الأماكن الأثرية مثل ميناء قنا وموقع ملحان وحنو الزرير وشبوة القديمة وغيرها، وعملنا وبتعاون بعض الأخيار من سكان تلك المناطق على منع العبث بمعالم وآثار تلك المناطق، لكن أملنا كبير في الحكومة المركزية والسلطات المحلية والمنظمات الدولية المختصة بالتراث والثقافة أن تلفت إلى آثار محافظة شبوة، ومنها مملكة قتبان العظيمة، عليهم الإسراع في ذلك قبل فوات الأوان".

"إندبندنت عربية"​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى