الخطيب .. سيمفونية القلم والقدم

> محمد العولقي

> * تذكرون ذلك المذيع الإعلامي خفيف الظل فصيح اللسان الذي ظل الجنوب، يتغنى بعبقريته في دنيا الإعلام المسموع، حتى استشهاده المؤسف في كلاسيكو الرفاق بين البلاشفة والمناشفة .. بالطبع ترك (جمال الخطيب) خلفه - وقد كان يشغل منصب مدير إذاعة عدن لحظة استشهاده - إرثا إعلاميا كبيرا، كان سبباً في بروز جيل مبدع سار على نهج مدرسته الرائدة ، لكن الأهم من هذا وذاك أن (جمال الخطيب) أهدى وطنه فناً جديداً صاخباً في إيقاعه، مدهشاً في إنتاجه، بعيداً عن فصاحة اللسان ومحسنات البيان.

* أتحدث هنا عن الخلف (محجوب جمال الخطيب) الذي حمل على كاهله أمانة السلف ، فكان أن تلى بيانه بالقدم ، في مجال إبداعي آخر ينبض بالحركة والبركة، بعيداً عن جاذبية الميكروفون وحلاوة التعامل مع الهواء .. وصحيح أن ابن الوز غرد بعيداً عن فن العوم ، ولم يسبح في أثير الأذن التي تعشق قبل العين ، إلا أنه كان امتداداً لملكات والده الشهيد الذي كان خطيباً مفوهاً وإدارياً محنكاً، جعل من برامج إذاعة عدن ميداناً لتطلعات الوطن وهموم المواطن ، وهو أمر استوعبه الشبل (محجوب) الذي نقل تراث والده ، وطبقه بقدمه في الملاعب لا بلسانه ، ربما اختار الفتى (محجوب) دنيا الملاعب المفتوحة ، ليبرهن لوالده ربيب الكلمة والقلم ، أن لغة القدم أصدق أنباء، من فصاحة اللسان وبلاغة القلم أحياناً.

* وموهبة الفتى المحبوب واللاعب الموهوب (محجوب) ليست محل خلاف فقد ورث عن والده جينات الإبداع ، فآثر تطبيقها في الملاعب المفتوحة عوضا عن فصاحة اللسان في الاستديوهات المغلقة، مفضلاً التعبير عن مواهبه الكروية الفطرية بعيداً عن جلباب أبيه ذلك النابغة الذي يسكن صوت الجبل دروب حنجرته الذهبية، فهو ذاكرة الفولكلور الإعلامي الذي يصعب استنساخ عبقريته وبديهته الفذة.

* كان من سوء حظ محجوب الخطيب أنه ركب (سفينة نادي الميناء) ، في وقت كان ارتفاع الموج في التواهي، يشير إلى خطورة التوغل في العمق، وتخلى الحظ عن (محجوب) الموهوب، لأن الميناء الذي انتقل بقدرة قادر من الوصيف إلى الرصيف ، تحول إلى بؤرة خلافات و اتهامات طاردة للإبداع والمبدعين .. وتصدع ميناء التواهي ، ولم تجد سفينة السماوي (الأدميرال المنقذ)، فقد اكتفى المتصارعون بتبادل الاتهامات وحياكة المؤامرات المطبوخة في وقت كانت السفينة تغرق بكل حمولتها الفنية والبشرية.

* وفي عصر (محجوب الخطيب) كان فريق نادي الميناء يعاني من تخمة مواهب نادرة لن تتكرر ، ولولا المؤمرات والدسائس الداخلية لحقق رفاق (محجوب الخطيب) قفزة تاريخية في بورصة البطولات ، لكن ملوك الطوائف في الميناء ضيعوا لبن التواهي في صيف تحول إلى مذبحة مروعة بحق نجوم الفريق .. وأتذكر ذلك الفتى الريفي (مهدي دبان) القادم من سيدة الرمال (أمصرة) والذي كان تحفة من أحلى تحف الميناء ولا أنسى ذلك الظهير العصري المتمرد (أديب سيف) و(رأفت أسكندر) و(إبراهيم عوض) و(فيصل الحاج) و(هاني محفوظ) والقائمة تطول وتطول .. وبرزت تهمة الرشوة الشهيرة بعد عام واحد من هبوط الفريق، كانت تهمة مفبركة لا تستند على دليل مادي واحد يدين رفاق الكابتن (عامر إبراهيم) ، و(لعب الفأر في عب الإدارة واستسلمت للوسواس الخناس) ، فكانت القطيعة ، التي أعلنت عن هجرة جماعية هي الأغرب في ملاعب بلادنا.

* تفرق الموهوبون شذراً مذراً ، و اقتادتهم طوائف الميناء إلى سوق عكاظ ، وهناك باعوهم في أسوأ مزاد علني ، ومن يومها تفرق شمل الميناء ، فقد استوطنت لعنة بنت شيخ الجان هذا النادي المغلوب على أمره ، وتحول بفعل مخلفات تصفية الحسابات ، إلى بركة آسنة تعبث بها الطحالب الفاترة دون حسيب أو رقيب .. ولأن الميناء تخلى عن دوره كمصنع ينتج المواهب الفنية النادرة ، ولم يعد يهتم بمسألة العودة إلى مكانه الطبيعي بين فرق النخبة ، اختار (محجوب الخطيب) أن يسلك نفس مسار (أسماك السلمون) ، تلك الأسماك التي تهاجر كل عام من مكان إلى آخر قاطعة آلاف الأميال غير آبهة بما يسقط منها من ضحايا في موسم الهجرة نحو وطن جديد .. وحط (محجوب الخطيب) رحاله في نادي الشعلة ، ولعله اختار (الأصفر البراق) في ذلك الوقت، لأنه يتناسب مع رقصة السامبا ، تلك الرقصة التي يتقنها (محجوب الخطيب) ويحفظ أسرارها عن ظهر قلب .. في تصوري أن هذا اللاعب جاء في زمن غير زمنه ، فهو رغم ملكاته الكروية وفصاحة قدمه التي تصنع الحلوى للمهاجمين أخطأته كثيراً عيون الناخبين الوطنيين ولم يأخذ فرصته الكاملة لينقل تجليات إبداعه إلى الخارج فظل طوال رحلته المتقلبة متأرجحاً بين بحر يبتلع طوفانه كل الأحلام ، ونار شعلاوية تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله ، باحثاً عن قيراط حظ دولي دون فائدة.

* لماذا تكتب الآن عن (محجوب الخطيب) وقد هجر الكرة و اكتفى من غنيمة الكرة بمشوار ملئ بدراما الشهد والدموع؟ .. لقد خطر على بالي الشهيد (جمال الخطيب) على خلفية تقهقر الإعلام المسموع الذي أصبح مهنة لمن لا مهنة له ، وتذكرت لحن (جمال الخطيب) الذي لا يغيب، وسيمفونيته التي انتقلت بالوراثة من عرين الأسد إلى قدم الشبل (محجوب) ، فولدت هذه الخاطرة التي تحكي قليلا من قصة مبدعين من سلالتي القلم والقدم..!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى