التسامح والتصالح صحوة شعب ينبغي أن تكتمل

> د. صالح طاهر سعيد

> شعب الجنوب حالة مثالية في نسيجه الاجتماعي، ووحدته الداخلية. لا مذهبية ولا تعدد أديان ولا عرقية، تجمعه ثقافة عربية إسلامية واحدة. الوحدة الداخلية بين مكوناته هي القاعدة والصراعات الاجتماعية بين هذه المكونات تمثل الاستثناء.

تشكلت وتصلبت الوحدة الداخلية الوطنية والاجتماعية لهذا الشعب في مجرى تاريخه الاجتماعي والسياسي الطويل الضارب جذوره في أعماق التاريخ، في معارك الدفاع عن أرضه وأسباب وجوده وبقائه ضد الغزاة السبأيين وغزوات الأئمة القاسميين، ومن بعدهم ضد أطماع أنظمة الحكم المتعاقبة في صنعاء، وفي معارك الدفاع عن ذاته الوطنية والقومية ضد الأطماع الاستعمارية التركية والبرتغالية والبريطانية.

هذا التاريخ الطويل بكل تفاصيله ومحطاته أنتج وحدة الهوية ووحدة السيادة والدولة. نتيجة استمدت شرعيتها من شرعة الخالق عز وجل ومن شرعية النتاج الاجتماعي والسياسي الذي جاء بوصفه ثمرة للمسار التاريخي الطويل للإنسانية، ومن شرعية القانون الدولي وشرعية المؤسسات الدولية التي اعترفت بشعب الجنوب ودولته الوطنية المستقلة وقبولها عضوا كاملا في مؤسسات الشرعية الدولية.

مع وجود كل المقومات الشرعية الداخلية والخارجية لهذه الدولة استمر التآمر على هذه الدولة وزادت الأطماع في أرضها وثرواتها ورسم الخطط لإسقاطها وضم أراضيها وشعبها إلى أراضي وشعب دولة أخرى، حيث بنيت استراتيجية الإسقاط على ضرب مقومات تطور وصعود شعب الجنوب إلى دولة. فكان التركيز على ضرب الوحدة الوطنية للشعب من خلال إسقاط الهوية والسيادة وسلطة القرار السيادي المستقل.

احتلت استراتيجية إسقاط هذه الدولة أولوية في الخطط الاستراتيجية للجمهورية العربية اليمنية الجارة الشمالية لدولة الجنوب، حيث وظفت الصراع الإقليمي والدولي لخدمة هذه الاستراتيجية مستخدمة كل الأيديولوجيات القومية والأممية اليسارية والدينية لهذا الغرض.

وبوصف الهوية والسيادة وسلطة القرار السيادي ثوابت حق وطني فهي محددة ترتبط حدودها بحدود الوطن الذي هو الآخر ترتبط حدوده بحدود الدولة المعترف بها. كان ذلك أول تعقيد يقف في وجه استراتيجية الإسقاط يتوجب تخطيه للوصول إلى أهداف تحقيق استرتيجية الإسقاط. وكان لابد من وجود أداة تقوض هذه الحدود وتنقل الجنوب شعب ودولة من حالة حق محدد بحدود جغرافية، بحدود بشرية (شعب) وبحدود سلطة قرار سيادي إلى حالة اللا تحديد، فوقع اختيار هذه الأداة على أداة الأيديولوجيا لحملها صفة العابرة للحدود بكل أنواعها (قومية، يسارية، أممية أو دينية).

رفعت الأيديولوجيا القومية شعار وحدة الأمة العربية وبدلا من أن يطرح موضوع الاتحاد العربي على أصوله بوصفه اتحادا بين شعوب ودول قائمة، تحدد فيها حق كل شعب ودولة وتبحث من خلال الاتحاد عن توحيد الأمة لتصبح قوة تحمي حقوق شعوبها ولا تلغيها لتلتهم بعضها البعض حين تطرح أن فكرة وحدة الشعبين والدولتين خطوة في طريق الوحدة العربية فالإعلان الوحدوي بين نظامي الدولتين في مايو 1990 كان في حقيقة الأمر إعلان لإلغاء الشعبين والدولتين وإلغاء لتحديدات ثوابت الحق الوطني لكلاهما، الأمر الذي عاد بالشعبين والدولتين إلى حالة اللا تحديد لتصبح أراضيهما أشبه بالأرض المشاع، الأمر الذي هيأ الظروف لانتعاش أطماع التملك والاستحواذ وبداية لفوضى الأزمات والصراعات والحروب.

على نفس المنهج سارت الأيديولوجيات الأخرى، حيث تبنى أنصار الأممية اليسارية فكرة أن وحدة الشعبين والدولتين في دولة واحدة يخدم توسيع رقعة النفوذ الاشتراكي، فيما تبنت الأيديولوجية الدينية شعار وحدة الأمة الإسلامية، وأن وحدة الشعبين والدولتين خطوة في طريق وحدة الأمة الإسلامية.

على الرغم من الفوارق الجوهرية بين الأيديولوجيات الثلاث والتضاد والتنافر بينها إلا أن القاسم المشترك الذي يجمعها هو إلغاء تحديدات الهوية والسيادة للشعبين والدولتين وتكريس فكرة الشعب الواحد والدولة الواحدة ذات هوية واحدة وسيادة واحدة. فكرة ليس لها أساس واقعي وبمجرد وضعها حيز التنفيذ في تسعينات القرن الماضي ضج الواقع ورفضها وكانت سببا في إشعال فتيل الأزمات والحروب التي لم تتوقف منذ عام 1990 إلى يومنا هذا.

كل ذلك كان خروجا فجا عن شرعة الخالق وإرادته الذي "جعل البشر في شعوب" وإلغاء للحق وخروجا عن العقل، إلغاء لنتيجة أفضى إليها التاريخ الإنساني تتمثل في ظهور البنية الشعوبية وخروجا عن القانون الدولي الذي شرعن هذه النتيجة وما ترتب عليها من شرعنة لثوابت الحق المحددة (هوية وسيادة وسلطة القرار السيادي)، كان ذلك إلغاء لتحديدات الحق في هذه المنطقة من العالم وفتح الأبواب أمام أطماع التملك والاستحواذ من جهة وأطماع توسيع رقعة النفوذ الأيديولوجي من جهة أخرى، والقاسم المشترك بينهما هو عبور الحدود وإيجاد غطاء لإلغائها سواء كان لفرض التوسع في التملك والاستحواذ والاستيلاء على حق الآخر أو لفرض توسيع رقعة النفوذ الأيديولوجي. مثل الأول المنطلقات الأيديولوجية والدافع المحرك لنظام صنعاء وسياساته تجاه الجنوب فيما مثّل الثاني المنطلقات الأيديولوجية والدافع المحرك لنظام عدن وسياساته تجاه الشمال.

انتهت لعبة الصراع الأيديولوجي في تسعينيات القرن العشرين بسقوط الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي وهو المركز الذي يغذي الصراع الأيديولوجي على امتداد العالم كله، فسقطت أنظمة الوجهة الاشتراكية في العالم ومنها نظام الاتجاه الاشتراكي في عدن جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. وترتيبا على ذلك هزم الطرف الذي يسعى لتوسيع رقعة أطماع النفوذ الاشتراكي وانتصرت أيديولوجية أطماع التملك والاستحواذ التي تتبناها صنعاء ضد الجنوب شعبا ودولة. وبالنتيجة تغييب كلي لثوابت الحق وأطرافه وهم هنا الشعبان في كل من الجنوب والشمال، وحدث هذا التغييب بفعل غياب العقل القادر على وعي الحق والانتصار له لدى كلا الشعبان، فوجدت الأيديولوجيا التربة الخصبة في المستوى الغريزي العاطفي لوعي عامة الناس وغياب المستوى العقلي القادر على فهم وإدارة تطورات أحداث الواقع.

لم يخرج الصراع في دولة الجنوب عن هذا الإطار، فقد انقسمت الطبقة السياسية في الجنوب إلى مجموعتين: مجموعة تسعى لتعميق نفوذها والاستحواذ والانفراد في الحكم، ومجموعة تسعى لتعزيز نفوذ الأيديولوجيا وزيادة دورها في قيادة الدولة.

لم تطرح ثوابت الحق الوطني الهوية والسيادة وسلطة القرار السيادي لشعب الجنوب على طاولة الصراع الذي مر بثلاث محطات أساسية برغم أنها هي العناصر الخفية التي تحرك الصراع وتظهر بمظهر الصراع على السلطة وتتغطى بغطاء الأيديولوجيا القومية في المحطة الأولى (1967-1969)، والأيديولوجيا الاشتراكية في المحطتين الثانية (1970 - 1978)، والثالثة (1979 - 1986).

هنا ينبغي أن نشير إلى مجموعة ثالثة كان لها دور محوري في الصراع داخل الدولة الجنوبية، وهي مجموعة المعارضة في اليمن الشمالية التي نزحت إلى عدن وتوغلت في النظام السياسي لدولة الجنوب متدثرة بغطاء الأيديولوجيات على اختلافها. كان موقف هذه المجموعة في المحطات الثلاث إلى جانب المجموعة الجنوبية الساعية لتعزيز دور الأيديولوجيا وزيادة دورها في إدارة السياسات العامة للدولة.

كتبت الباحثة البريطانية هيلين لاكنر في كتابها "تاريخ جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية" إن موضوع الوحدة اليمنية لم يكن موجودا في الوعي الجمعي لسكان هذه الدولة قبل الخمسينات وبداية الستينات من القرن العشرين. فقد ظهر خلال تلك الفترة المتأخرة بفعل الازدهار الكبير الذي شهدته عدن وميناؤها الحر وتوافد جالية كبيرة من أبناء اليمن للعمل في الميناء وحصلوا على مكاسب اقتصادية كانوا يحلمون بها، وأرادوا أن يوفقوا بين الحفاظ على تلك المكاسب واستمرار انتمائهم إلى ما كانوا يسمونه الوطن الأم (اليمن). انخرطوا في الحركة الوطنية في الجنوب إلى أن أصبح لهم شأن مقرر فيها ورفعوا شعار الوحدة اليمنية ودسوا تسمية جنوب اليمن ليصبح مع مرور الوقت التسمية الرسمية لشعب ودولة الجنوب.

يفسر لنا كل ذلك الموقف الداعم من قبل المجموعة الثالثة للمجموعة الجنوبية التي تسعى لتعزيز دور الأيديولوجيا في الحياة السياسية لدولة الجنوب، حيث ترى فيها الطريق القصير الذي يوصلها إلى هدف تحقيق الوحدة اليمنية، فهي تلغى الحدود حدود الهويات والسيادة بين الدولتين وتدخل الجنوب في صراعات بينية تقود بالتأكيد لإضعافه وتسهل للأطماع الشمالية الانقضاض والسيطرة على الجنوب شعب ودولة، الأمر الذي مهد للدخول في مسار المحطة الرابعة (1986 - 1990)، التي انتهت في تذويب وصهر الهويتين والسيادتين للشعبين والدولتين في شخصية دولية واحدة اسمها "الجمهورية اليمنية".

يتبين مما تم عرضه أن مجموعات الطبقة السياسية لدولة الجنوب قد تم إسقاطها وإخراجها عن المشهد، حيث خرجت المجموعة الأولى في يونيو 1969، وخرجت المجموعة الثانية في يوليو 1978، فيما خرجت المجموعة الثالثة في يناير 1986، وبقيت المجموعة الرابعة التي وقعت على الوحدة مع الجمهورية العربية اليمنية، إلى أن أعلن عليها الحرب في 1994، ليخرج الجنوب كله شعب ودولة عن معادلات المشهد السياسي في ما يسمى بالدولة الموحدة.

مثل كل ذلك التحدي المصيري لشعب الجنوب الذي يرقى إلى مستوى التحدي الوجودي، فوجد نفسه أمام تحدي الكينونة يكون أو لا يكون. لقد كاد شعب الجنوب أن يفقد الهوية الوطنية المستقلة ويفقد الأرض والسيادة عليها، وكذا قراره السيادي، ودولته الوطنية المستقلة.

أمام كل هذه التحديات حدثت الاستجابة المتناغمة مع التحديات المصيرية التي عبرت عن نفسها في صحوة العقل الجمعي لشعب الجنوب، فانتقل الوعي الجمعي من المستوى العاطفي إلى مستوى العقل، فتبلور وعي شعب الجنوب لذاته الوطنية بأنه شعب بهوية وطنية مستقلة وليس جزءا من شعب آخر ولا هو فرع من أصل. وترتيبا على ذلك أصبح واعيا لثوابت الحق الوطني: هوية وسيادة وتقرير مصير. وأصبح واعيا بأن هذا الحق الوطني بحدوده المعروفة هو من يحدد علاقته مع الشعوب المجاورة ومن بينهم شعب الجمهورية العربية اليمنية، وشعوب العالم كله، وعلى الصعيد الداخلي صار على وعي تام بأن كل أبناء شعب الجنوب متساوون في ممارسة هذه الحقوق وأنهم في علاقاتهم البينية محكومون بمبادئ التوازن والمساواة والعدالة، وأنهم شركاء في الوطن وشركاء في استعادته وفي إدارته.

كما أدرك وصار على وعي تام بأن استعادة الوطن وإعادة بناء دولته وإدارتها فيما بعد مستحيل دون تجاوز آثار الماضي وصراعاته. وعي ينم عن صحوة عقل قادت إلى وعي الحق والعلاقات الحقوقية بشقيها الداخلي والخارجي، وأن الطريق إليها يبدأ بالفكرة العظيمة؛ فكرة التسامح والتصالح، فصحوة العقل ووعي الحق والعلاقات الحقوقية الداخلية والخارجية هي المداميك التي قام عليها مشروع التسامح والتصالح واستعادة الوحدة الوطنية لشعب الجنوب.

هذه المداميك لها بناء خارجي وبناء داخلي: البناء الخارجي هو أن شعب الجنوب واحد بهوية واحدة وسيادة واحدة وقرار واحد تشكل جميعها حقا واحدا يتوحد حوله الشعب ليستعيده حق كامل غير منقوص، فيما يتمثل البناء الداخلي في أن شعب الجنوب له أجزاؤه وهي مكونات التقسيم الجغرافي الإداري تستقيم وتتماسك العلاقة البينية بين هذه الأجزاء بالاحتكام لمبادئ التوازن الوطني والمساواة والعدالة التي تأخذ التطبيق العملي لها في التمثيل السياسي وإعادة توزيع الثروة وتقسيم الوظائف في بناء مؤسسات الدولة الجديدة الاجتماعية والاقتصادية والأمنية والدفاعية والسياسية وفي كل الفرص التي تلبي احتياجات المجتمع والدولة.

* أستاذ الفلسفة السياسية المساعد- كلية الآداب - جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى