إما الاحتكام للقضاء الدولي أو إعلان الدولة الجنوبية

> أحمد عمر بامطرف

> مضى أكثر من عام على إبرام اتفاق الرياض بين الحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي الجنوبي الذي وقع عليه الطرفان بتاريخ 5 نوفمبر 2019 في مدينة الرياض تحت رعاية فخامة الأخ رئيس الجمهورية عبدربه منصور هادي وولي العهد السعودي سمو الأمير محمد بن سلمان، ومنذ ذلك التاريخ وحتى الآن لم يُنفذ الاتفاق على الرغم من أن الجانب السعودي وضع قبل نحو أربعة أشهر آلية لتسريع تنفيذ الاتفاق ولم تُنفذ هي الأخرى بسبب الخلافات بين الطرفين بشأن كيفية تنفيذ الشق العسكري من الاتفاق، إذ ترى الحكومة الشرعية البدء بتنفيذ الشق العسكري المتعلق بنقل القوات العسكرية والأمنية للطرفين من مواقعها الحالية وإعادة انتشارها وتموضعها في مناطق أخرى، وذلك قبل تنفيذ الشق السياسي المتمثل بإعلان تشكيل الحكومة الجديدة، بينما يرى المجلس الانتقالي الجنوبي بأن تنفيذ الشق العسكري ينبغي أن يكون بعد تشكيل الحكومة الجديدة.

وبالتدقيق في هذين الرأيين يتضح بأن رأي المجلس الانتقالي يتوافق مع الدستور وعلى وجه الخصوص المادة (140) منه، لأن حكومة تصريف الأعمال لا تختص إلا بالقيام بالأعمال العادية فقط، أما القيام بالأعمال غير العادية ومن بينها الأعمال التي تضمنها الشق العسكري من اتفاق الرياض فهي من اختصاص الحكومة الجديدة المزمع تشكيلها والتي تم الاتفاق على قوامها من (24 وزيراً) مناصفةً بين الشمال والجنوب حسبما نص عليه اتفاق الرياض، هذا من جهة.

ومن جهةٍ أخرى، فإن المجلس الانتقالي الجنوبي قدم خلال سير المفاوضات عدداً من التنازلات من أجل تنفيذ اتفاق الرياض كان أبرزها قبوله في بداية التفاوض باشتراط الحكومة الشرعية إلغاء قرار الإدارة الذاتية التي سبق أن أعلنها على محافظات عدن ولحج وأبين والتي كانت مكسبا كبيرا حققه المجلس الانتقالي، وبالفعل أصدر المجلس الانتقالي قراراً بإلغاء الإدارة الذاتية، وقد تزامن قراره هذا مع المسيرات المليونية التي شهدتها مدينة المكلا عاصمة محافظة حضرموت ومدينة الغيظة عاصمة محافظة المهرة التي طالبت فيها الجماهير المجلس الانتقالي الجنوبي بإعلان الإدارة الذاتية في كلتا المحافظتين إسوةً بباقي محافظات الجنوب، ثم قدم المجلس الانتقالي تنازلاً آخر من أجل تنفيذ اتفاق الرياض يتمثل في قبولِهِ بعددٍ محدود من الوزارات انتقاصاً من حصته المحددة للجنوب بعدد (12 وزيراً) في تشكيلة الحكومة، مع أنه، أي المجلس الانتقالي الجنوبي، هو الطرف المعني دون غيرهِ بالاتفاق مع الحكومة الشرعية كطرفٍ مُقابل، والاثنان معاً هما الطرفان المعنيان باتفاق الرياض الذي توصلا إليه كحلٍ للمواجهات المسلحة التي دارت أكثر من مرة في محافظة عدن بين قواتهما العسكرية، هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى فإن المجلس الانتقالي الجنوبي هو المُفوض جماهيرياً لتمثيل الجنوب وهو الحامل السياسي لقضية الجنوب المعترف به محلياً وإقليمياً ودولياً، ولذلك فهو يختص بإشراك باقي المكونات الجنوبية في توزيع حصة الجنوب من الحقائب الوزارية وفقاً للعدد المحدد للجنوب في تشكيلة الحكومة (12 وزارة من أصل 24) وربما كانت هناك تنازلات أخرى قدمها المجلس الانتقالي ولم يُعلن عنها، ومع ذلك وبدلاً من الإعلان عن تشكيل الحكومة تنفيذاً لاتفاق الرياض تواصلت المواجهات المسلحة بين القوات العسكرية للطرفين في منطقة شقرة على مشارف محافظة أبين حيث تشتد فيها المعارك يوماً عن يوم، وفشلت مساعي التهدئة التي قامت بها راعية اتفاق الرياض قائدة قوات التحالف العربي المملكة العربية السعودية، بينما الغالبية العظمى من الشعب في المحافظات الجنوبية عامةً وفي العاصمة المؤقتة عدن على وجه الخصوص تُعاني تدهوراً متزايداً في جميع مجالات حياتهم اليومية ووصلت مستويات معيشتهم إلى ما تحت خط الفقر لأسباب كثيرة، في مقدمتها الانهيار المستمر في قيمة العملة الوطنية مقابل النقد الأجنبي والارتفاع المتزايد في الأسعار، وازدادت بؤساً الأحوال الصحية للناس بسبب تفشي الأمراض وتردي الخدمات الصحية وجميع الخدمات الأساسية الأخرى، ويحدث كل ذلك في ظل الغياب المستمر للحكومة الشرعية عن عدن مع أنه سبق أن أعلنتها منذ ست سنوات عاصمة مؤقتة للبلاد بينما مازالت تُقيم في الخارج.

لقد وصلت الأحوال العامة لحياة الناس في العاصمة المؤقتة عدن على وجه الخصوص إلى مشارف المآسي الإنسانية المُروعة التي سيؤدي تفاقمها إلى نتائج وخيمة لا تُحمد عُقباها لولا الجهود الجبارة التي يُبذِلُها بتفانٍ وإخلاص محافظ عدن الجديد الأستاذ أحمد حامد لملس - وهذه كلمة حق تُقال في حق هذا الرجُل - فعلى الرغم من حداثة تعيينه في هذا المنصب إلا أن ما بذلهُ من جهود وما أصدرهُ من قرارات وما اتخذه من إجراءات حتى الآن في مجالات مختلفة في محافظة عدن أعادت الطمأنينة إلى قلوب الناس وزرعت الأمل في نفوسهم بإمكانية إخلاء عدن من عصابات الفساد والنهب والإجرام وإمكانية استعادة عدن لجمالٍها وأمنها واستقرارها وازدهارها، ولذلك ازداد حجم التآمر على الجنوب وأصبح أكثر شراسةً عن ذي قبل، وهذا ما تؤكدهُ مجريات الأحداث الدائرة على أرض الواقع في الجنوب بدءاً بسحب وحدات كبيرة من الجيش الوطني من جبهات القتال في المحافظات الشمالية وغزوها للمحافظات الجنوبية ابتداءً بمحافظة شبوة ثم محافظة أبين وصولا إلى عدن بقصد إعادة احتلال الجنوب، وهذا ما تؤكده المعارك اليومية الطاحنة التي تدور بين هذه القوات والقوات الجنوبية التابعة للمجلس الانتقالي.

كل هذه الأحداث الخطيرة تجري على مرأى ومسمع من قيادة قوات التحالف والدول الراعية على اليمن وكذلك المندوب الدولي إلى اليمن مارتن جريفيثس دون أن تكون هناك إدانة أو حتى استنكار من هذه الأطراف الإقليمية أو الدولية لما يحدث.

ومن خلال كل هذه الشواهد يُمكِن تفسير المماطلة في تنفيذ اتفاق الرياض وجرجرة المجلس الانتقالي الجنوبي للتخلي عن الإدارة الذاتية وتقديمه التنازلات تلو التنازلات دون مقابل واستمرار المعارك في شقرة بهدف تحويلها إلى حرب استنزاف طويلة المدى، بالإضافة إلى استمرار حرب الخدمات على المواطنين في المحافظات الجنوبية عامةً وتوقيف صرف الرواتب والمستحقات المالية لقطاع واسع من العسكريين الجنوبيين، كل هذا القصد منه زعزعة ثقة الشعب الجنوبي في قيادته المتمثلة في المجلس الانتقالي وإيصاله إلى حالة اليأس والإحباط العام، تمهيداً للقضاء على تطلعاته المشروعة في بناء دولة وطنية ديمقراطية مستقلة آمنة ومزدهرة.

إن واقع النزاعات المسلحة عموماً التي تجري داخل بعض الدول بين الحكومات الشرعية وأطراف أخرى متحاربة معها أظهرت مدى وحشية تلك النزاعات والخسائر البشرية الناتجة عنها والأضرار البالغة التي تسببها للسكان المدنيين، ولهذا قام فقهاء القانون الدولي بعدة محاولات وقدموا وجهات نظر فقهية وقانونية دولية لإخضاع هذا النوع من النزاعات المسلحة لقدرٍ من التنظيم، ولذلك فقد عالج القانون الدولي الحروب الداخلية التي تدور داخل الدول باعتبارها حروباً بنفس طريقة معالجته أساساً للحروب التي تقع بين الدول ذات السيادة، وذلك في حالة اعتراف الدولة بالأطراف المتحاربة معها في نزاع مسلح (داخلي) غير دولي باعتبارها أطرافاً مُحارِبة لها، فإنها بالتالي تخضع للقانون الدولي وتُعامل أساساً كدولة في حالة حرب وتتمتع بنفس الحقوق وتلتزم بنفس الواجبات ويكون الالتزام بكفالة احترام قواعد القانون الدولي مُلزِماً للأطراف على قدم المساواة.

والاعتراف بالمحاربين هو نظام قانوني من أنظمة القانون الدولي وهو تصرف قانوني تُعبر من خلاله الدولة عن رغبتها ونيتها في إقامة علاقة مع الطرف المتحاربة معه. وعلى هذا الأساس أصبح القضاء الجنائي الدولي يلعبُ دوراً أساسياً وهاماً في النزاعات المسلحة التي تجري داخل الدول، فالمحكمة الجنائية الدولية هي الأداة المُفترضة لمراقبة تنفيذ ما أقرهُ القانون الدولي الإنساني وقانون النزاعات المسلحة من قواعد والتزامات، والنزاعات المسلحة التي تحدث داخل الدول تخضع لإمكانية ملاحقة ومعاقبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم التطهير العِرقي وجرائم انتهاكات حقوق الإنسان، وذلك عن طريق إنشاء محاكم جنائية خاصة مثل المحكمة الجنائية الخاصة بجمهورية يوغوسلافيا السابقة أثناء الحرب التي جرت بين الصرب ومسلمي البوسنة والهرسك والمحكمة الجنائية الخاصة بجمهورية رواندا أثناء الحرب التي دارت فيها بين قبيلتي التوتسي والهوتو، وقد قامت المحكمتان بدورٍ فعال في محاكمة ومعاقبة مجرمي الحرب وإنهاء النزاعات المسلحة في تلك الدولتين، ولابد مستقبلاً للمحكمة الجنائية الدولية أن تقوم بالدور ذاته ليكون كل فعل يهدد أو يمس الأمن والسلم الدوليين حتى وإن ارتُكِب على المستوى الداخلي واقع ضمن اختصاص المحكمة.

وتأسيساً على ما تقدم بيانه من قواعد في القانون الدولي من جهة، ومن جهةٍ أخرى لأن اليمن وُضِعت تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وتحت الوصاية الدولية، فإن المجلس الانتقالي الجنوبي طالما هو طرفٌ مُعترف به من قِبل الحكومة الشرعية متحارب معها وككيان سياسي وقد أبرم اتفاقاً معها (اتفاق الرياض) بشقيه العسكري والأمني منذ أكثر من عام ولم يتم تنفيذه، فمن أجل تجنُّب المعارك المسلحة وحرب الاستنزاف طويلة المدى، وإنقاذ الغالبية العظمى من الشعب الجنوبي من براثن الفقر والجوع والمرض والمآسي المختلفة التي يعانون منها، لذلك فليس أمام المجلس الانتقالي سوى خيارين قانونيين، إما الاحتكام للقضاء الدولي للمطالبة بتوفير الحماية الإنسانية الدولية للمواطنين وإلزام الحكومة بتنفيذ الاتفاق الذي سبق أن باركه مجلس الأمن الدولي وكذلك الدول الراعية، والمطالبة بوضع حدٍ للنزاعات المسلحة وإنهاء الحرب برمتها وتحقيق السلام والعمل على إعادة بناء الدولة، وإما أن يُعلِن المجلس الانتقالي قيام الدولة الجنوبية المستقلة التي يناضل من أجل تحقيقها، وهذا الموضوع سنتناول بحثه بالتفصيل وفقاً للقانون الدولي والمواثيق الدولية ذات الصِلة والقانون الدستوري في مقالِ آخر إن شاء الله.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى